والنصر ما شهد به الأعداء !


 
قدرنا ربما أن نظل سنوات أخرى طويلة نناقش مجريات العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان لأن هذه الحرب التي شغلت العالم و ركزت عليها كل المحطات و الوكالات بشكل لن نجانب الصواب كثيرا حينما نقول أنه الأضخم في تاريخ الحروب و النزاعات، ما تزال النتيجة الحقيقية لها و مخلفاتها حتى الساعة محل شد و جذب ليس لأن المنكسر فيها أو الصامد يبدو واضحا جليا، بل لأن التطرق إليها بشكل حيادي في عالمنا الشرقي خاصة، صار شيئا يكاد يكون مستحيلا !
من المعروف أصلا أن الحروب إنما هي وسيلة لأجل تحقيق ظروف جديدة على الأرض بمعنى أنها من المنظور التقليدي، تعد وسيلة دبلوماسية يجري اللجوء إليها من باب أنها آخر أنواع العلاج و لذلك فإن أخلاقيات السياسة الدولية تقوم (فرضا) على مبدأ الحرص على منع وقوعها في أي مكان من العالم لأنها أولا و أخيرا، مأساة إنسانية في وسع أبسطها أن تحدث جروحا قد لا تندمل بمرور العقود أو حتى القرون و شخصيا، لم أقف إلى اليوم على توصيف موجز لها كمثل ما قاله الروائي الروسي تولستوي: "إن الحرب شيء قذر" !!
مع ذلك، تكون الحرب أحيانا حلا لا مناص عنه خصوصا إذا ما كانت من منطلق دفاعي مقاوم إذ درجت الثقافات البشرية على مر العصور على حفظ حق المظلوم في الدفاع عن نفسه و مصالحه حينما تكون محل خطر و بالتالي فإنه من غير الممكن أن نتوقع يوما خلو الأرض منها ليس لأن البشرية لم تتطور و لكن: لأن أسباب الحرب لم تتطور كثيرا معها فمن اللافت هنا مثلا أن يظل الماء و الغذاء منذ آلاف السنين سببا في الحروب و النزاعات منذ حروب الفينيقيين إلى يوليوس قيصر وصولا إلى الواقع العالمي الحالي فأهم سبب في اندلاع النزاع في إقليم دارفور السوداني، كما أقر بذلك الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون نفسه قبل أيام قليلة أمام المجتمعين في منتدى دافوس الاقتصادي، هو شح المياه في تلك المنطقة من العالم.
و بما أن دولة "إسرائيل" قامت أصلا على مبدأ احتلال الأرض و ترحيل الناس فإنه كان من الطبيعي عندها أن تظل العقلية السياسية فيها متعلقة بهذا المبدأ و بالتالي فإن حربها الأخيرة على لبنان قبل ثمانية عشر شهرا من الآن، اندرجت تحت هذا المفهوم إذ أن مقتضيات الأمن القومي عندها لا تحتمل إطلاقا إمكانية أن تعيش الدولة العبرية تحت ظل توازن قوى مهما وقّعت من اتفاقيات أو معاهدات و لذلك فهي على سبيل المثال لا الحصر، تقيم علاقات دبلوماسية حذرة مع القاهرة و لكنها ليست مستعدة أن ترى هذه الأخيرة و قد صارت تمتلك السلاح النووي لأن هذا المعطى في وسعه أن يفقدها موقع القوة التي تقوم عليها أصلا، نظرتها للسياسة و العلاقات الدولية.
كان من الطبيعي إذن أن تشن هذه الدولة المحتلة لأرض فلسطين التاريخية بفضل مؤامرة دولية معاصرة هي أبدع ما توصلت إليه اللصوصية في تاريخها، إلى إعلان حرب شاملة على تنظيم مقاوم بسيط لا يقارن بما تمتلكه هي من مقدرات و لقد أعلنت هذه الحرب مباشرة بعد أن تجرأ أفراد حزب الله على أن يترصدوا ثم يقتلوا و يأسروا عددا من جنودها على الحدود مع لبنان بالرغم من أن هؤلاء ما ارتكبوا جرما كبيرا لأنهم أولا و أخيرا: كانوا يعلنون صباح مساء حرصهم على أسر الجنود الصهاينة بمعنى أن العملية التي وقعت في منطقة استنفار أمني عال، هي شيء بالمعنى العسكري روتيني و متوقع و لا يستلزم بالضرورة تحريك فرق الجيش و أسراب الطائرات لأجل قنبلة بلد بكامله.
ثم إن طريقة التفاعل الإسرائيلي بعد ذلك و منذ الأيام الأولى للحرب أوجد قناعة لدى كل المتابعين أن الأمر لا ينحصر فقط في الرد على عمل عسكري بل إنه يتعداه إلى تحقيق مطالب أخرى أكبر حجما بمعنى أنه كان واضحا منذ البداية، أن "إسرائيل" ما شنت الحرب ضد حزب الله فقط بل إنها كانت تسعى إلى ما هو أكثر و تريد أن تغير معطيات كثيرة على الأرض وصولا إلى إيجاد وضع إقليمي جديد حتى أنه من غير المستبعد إطلاقا هنا أن الهدف كان البدء بحرب ضد الحزب اللبناني ثم دخول أميركا على الخط و توسيعها بعد الفراغ من الهدف الأول سريعا (كما كان مخططا سلفا) إلى سورية و إيران أيضا مثلما حدث في حرب السويس خلال العام 1956 حينما بدأ الصهاينة الحرب ضد مصر ثم لحق بهم الفرنسيون و الإنجليز بعد ذلك كما هو معروف.
على هذا الأساس، لن يكون من المفيد لنا حاليا التشكيك في نتائج هذه الحرب التي كانت تهدف إلى خلق كيانات جغرافية و سياسية جديدة كانت كاتبة الدولة الأميركية نفسها تطوعت بالتبشير بها عبر إطلاقها لتعريفها الشهير: "إننا نعيش آلام مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد".
أما وقد انتهت هذه المطالب إلى زوال فإننا حتما سنكون على قدر عال من الحمق حينما نتصور أن مجرد توقيف هذا السيناريو الرهيب، ليس نصرا و أن كسر أعراف عسكرية دولية سابقة ليس إنجازا و لا بد بالتالي لنا أن ندقق النظر و نعيد الاستقراء حتى ندرك عمق ما تحقق و ما كان مخططا له أن يقع مهما كانت مواقفنا السياسية و ملحوظاتنا الداخلية فيما بيننا.
صحيح أن لبنان قد تضرر بشكل كبير و أن خسائره تعدت مليارات الدولارات فضلا عن سقوط أرواح لن يستطيع أحد أن يقدرها بثمن، ولكن من الحري بنا هنا أيضا أن نتساءل ما دام البعض على ما يبدو، قد حزن من نتيجة هذه الحرب.
منذ متى كان عدد القتلى و المجروحين فضلا عن الخسائر الاقتصادية، معيارا في نتائج الحروب و لوائح أهدافها؟ ألم يخسر الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية لوحده عشرين مليون إنسان و هو ما يوازي تقريبا نصف العدد الإجمالي لضحايا تلك الحرب و مع ذلك خرج منتصرا بغض النظر عن عدد المدن و القرى التي دمرتها الجيوش النازية فيه؟
هل سمع أحد يوما في بريطانيا خلال تلك الحرب دوما، أصواتا تدعو إلى الاستسلام بدعوى الواقعية و اجتناب المغامرة أمام القصف المجنون للطائرات الألمانية التي دكت لندن بملايين الأطنان من المتفجرات؟ ألم تخسر بريطانيا ما لا يحصى من المقدرات و الجنود و مع ذلك أيضا ظلت تعتبر منتصرة في الحرب و واحدة من أبطالها السابقين؟
أولم يخسر الفيتناميون في مقاومتهم للفرنسيين و الأميركيين من بعدهم، ملايين الرجال و آلاف القرى؟ ثم كم كان عدد القتلى الأميركان مقابل ثوار 'فيات كونغ'؟ فهل يعني هذا أن أميركا هي من خرج منتصرا من جنوب شرق آسيا؟
إن الحديث عن الخسائر هو حديث عاطفي يهدف إلى تلهية الناس عن ضرورة ألا تكون المصالح القومية العليا للأمم و المجتمعات، سقفا غير قابل للخفض و التنازل تحت أي ذريعة و إذا ما كان الاحتلال الإسرائيلي قد تجرأ و اعترف صراحة أنه حقق "إخفاقا كبيرا و خطيرا في حرب لبنان الثانية" مثلما جاء في تقرير لجنة فينوغراد الأخير، فإنه ليس من حق البعض منا هنا أن ينكر حقيقة أن الإنسان المؤمن هو فعلا سلاح ما بعده سلاح !!
صحفي و محلل سياسي جزائري.
للتواصل : عبدالحق بوقلقول
 haqqoo@hotmail.com