القائد حافظ الأسد , رجل التاريخ في الزمن الصعب


القائد حافظ الأسد , رجل التاريخ في الزمن الصعب

تسلم الرئيس حافظ الأسد قيادة سورية وهي دولة منهكة حزبياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً.. فالحزب كانت تقوده عقلية مناورة وتتجاذبه تيارات متعددة.. والجيش منهك تماماً إثر هزيمة حزيران.. والواقع الاقتصادي مترد تماماً.. وعلاقات سورية العربية التقدمية في أدنى مستوياتها.. ومركز سورية العربي والدولي كان هامشياً والأحزاب القومية التقدمية كانت

مهمشة وخارج السلطة وخارج المسؤولية وخارج القرار فأراد القائد الأسد أن يكسر احتكار الحزب للسلطة فجعل هذه الأحزاب شركاء في السلطة وفي القرار.. وانتقل الرئيس الأسد في زمن قصير بسورية من بلد كان عبئاً على عملية الصراع العربي الإسرائيلي إلى بلد يشكل مفتاح القرار في المنطقة ومركز النبض القومي وحامل هموم الأمة وقضاياها المصيرية.. ومن بلد الهزيمة إلى بلد الانتصار على اليأس وعلى القوة العسكرية الإسرائيلية التي لا تقهر.. ومن سورية بلد الانقلابات بفعل التدخل الأجنبي إلى بلد التماسك والقوة والاستقرار. كان السيد الرئيس يرى أن كل طاقات الأمة يجب أن تزج لصالح التناقض الرئيسي مع إسرائيل من أجل ذلك دعا إلى وحدة موقف الأمة وتناسي خلافاتها.. لأن معركتنا مع إسرائيل معركة وجود وأن الصهيونية تستهدف الأمة كلها.. من أجل ذلك رأى في الحرب العراقية الإيرانية حرباً مجنونة تستنزف قدرات العراق وتستنزف قدرات إيران الثورية لأنه كان يرى في إيران بعداً إستراتيجياً للصراع العربي الإسرائيلي لأن ذهنه كان مشدوداً دائماً إلى هذا الصراع.. وقد أثبتت الأحداث اللاحقة صحة هذا الموقف وأدرك كل الذين وقفوا وجّرحوا الموقف السوري تجاه العراقية الايرانية أن موقف الرئيس كان صائباً. ووقف مع الكويت أثناء الغزو لأن هذه الوقفة تنطلق من موقف قومي.. فالمعركة في رأيه مع إسرائيل لا تمر من الكويت ولا من عمان ولا من بيروت وأن المعركة مع إسرائيل لا يمكن كسبها إلا بتضامن عربي، وبقرار عربي كما حدث في حرب تشرين. كان القائد حافظ الأسد قائداً استثنائياً بامتياز.. فهو عسكري ومفكر وسياسي وعقائدي يتسم بالهدوء والموضوعية ووضوح الرؤية.. وكان القائد حافظ الأسد يمتلك فهماً حقيقياً للتاريخ ويعيشه ويؤمن بالاستشهاد وبالأمثلة التاريخية وكانت لديه القدرة أن يستطرد بالواقعة التاريخية ويستنبط دلالاتها ثم يؤكد النتيجة التي سيصل إليها ويترك للمستمع الاستنتاج.. فعمل القائد الخالد حافظ الأسد كان في الحقيقة التاريخ.. وهذا أمر نادر في رجال السياسية يحيط به هاجس من موقع فهمه لحركة التاريخ.. وكان في حديثه مع زائريه من داخل القطر وخارجه ومن سياسيين وقادة عرب وأجانب يستشهد بالتاريخ ويحدثهم من الذاكرة.. وحافظ الأسد كان شديد التعلق بالذاكرة.. فالذاكرة هي المحرض على العمل النضالي لإزاحة الألم الذي تراكم قروناً على كاهل الجماهير وروحها وحياتها وعلى الوطن ومسيرته.. فالعلاقة بين الوطن والحزب والشعب كانت تشكل عنده أهم أقانيمه المقدسة، لأنها القادرة على تكوين تفاعل حقيقي لإيقاظ مجد الأمة لكتابة تاريخ جديد ولكن ما الذي سيكتبه التاريخ عن رجل التاريخ القائد حافظ الأسد.. سيكتب التاريخ أن القائد الخالد حافظ الأسد كان متعلقاً بالثوابت والتي تقوم على.. تحرير الأرض.. تعميق العلاقة بين الحزب والجماهير.. والتضامن العربي لمواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني.. وتحقيق وحدة العرب لإعلاء كلمتهم بموقف قومي وإلغاء كافة التناقضات الثانوية بين الدول العربية لصالح التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني ومحاربة الفكر الرجعي والطائفي.. تدعيم دولة المؤسسات.. فهو عقائدي ابن مدرسة عقائدية نشأ فيها وكبر بها.. فتركيبته كاملة تركيبة عقائدية وإيمانه بالأمة إيمان قدري.. فلسطين ليست عنده أرض أخرى كأية أرض عربية وحسب فهي جنوب سورية، نشأ حافظ الأسد في ظل الإيمان المطلق بأن فلسطين جزء هام في الوطن العربي.. وفلسطين كلها مع الأقصى هي أولى القبلتين.. وفلسطين هي مركز الصراع بين الأمة وبين الصهيونية.. وأن فلسطين هي الامتداد الطبيعي لسورية.. من أجل ذلك ظلت فلسطين في عقله وذاكرته وفي دائرة إهتمامه.. وظلت المقاومة الفلسطينية محتضنه لديه ومدعمه ويرى فيها أملاً وقوة وطريقاً لتحرير الأرض.. حافظ الأسد كان عقائدياً من الطراز الأول وظل بعثياً حتى آخر أيامه.. لأنه الحل العلمي في رأيه لحسم كثير من المشكلات داخل الوطن ومنها الطائفية والمذهبية.. عقائدية الجيش.. فلسطين الإطار القومي السوري والحزب.. العدالة الاجتماعية.. فالحزب عنده كان رداً سياسياً وأخلاقياً ورداً حضارياً وقومياً للوقوف في وجه العنصرية والصهيونية وكان الرئيس الأسد يعتقد أن حزب البعث العربي الاشتراكي يمكن أن يشكل بتحالفه مع القوى القومية والتقدمية القوة المتوثبة لروح الأمة لوقف كل الانهيارات التي نراها في الأمة الآن.. كان الرئيس الأسد يتحسس من الموضوع الطائفي.. فكان دائم التركيز على الروح القومية وعلى قيم الأخلاق والعدالة والمحبة.. من هنا جاءت خشيته من الجرثومية الطائفية التي أرادت إسرائيل أن تزرعها في المنطقة وفي لبنان تحديداً من أجل أن يأخذ الصراع في لبنان وضعاً طائفياً وبالتالي هذا الوضع الطائفي يصب في مصلحة إسرائيل والغرب لمواجهة الأمة وبالتالي سورية من الخاصرة.. كان الهم اللبناني عند الرئيس حافظ الأسد ينطلق من خوفه أن تتحول لبنان إلى إسرائيل ثانية وإلى مركز غربي معاد للأمة. كان يرى في العلاقات السورية اللبنانية المميزة العلاقة الطبيعية أي أن تتوج العلاقة الرسمية والشعبية بين لبنان وسورية بعلاقة مميزة وطبيعية.. وكان الرئيس الأسد يدرك أهمية لبنان في حياة سورية وقوتها وأهميته في حياة الأمة العربية كجزء منها.. وكجزء هام قادر على أن يلعب دوراً في عملية الصراع مع إسرائيل. جاء شولتنز بعد اتفاق 17 أيار لمقابلة السيد الرئيس وقال له: هذا الاتفاق يؤيده 90% من الشعب اللبناني وأرجوك يا سيادة الرئيس ألا تضع العقبات أمامه.. لأن ذلك غير مجد على الإطلاق. فقال السيد الرئيس يا سيد شولتز هذا الاتفاق الذي يجعل من لبنان محمية إسرائيلية سيسقط لأن 90 لا بل 59% من الشعب اللبناني سيرفضه ولم يصدق شولتز أن الرئيس الأسد كان جاداً وسقط الاتفاق. وقرار الرئيس الأسد دخول لبنان كان قراراً تاريخياً.. لم يكن في ذاك الوقت قراراً شعبياً ولا دولياً ولا عربياً.. لكنه كان قراراً صائباً وحكيماً وشجاعاً.. رأى القائد الأسد فيه أبعد مما رآه الآخرون في الوطن العربي وفي الدول العظمى. جاء شولتز إلى الرئيس الأسد وقال له: أن الأسطول السادس الأمريكي في مواجهة الشواطئ اللبنانية ويمكن أن يتحول إلى الشواطئ السورية ويضرب أنى يشاء.. فقال له السيد الرئيس بهدوء ساخر: أعترف أن الأسطول السادس يمتلك كل إمكانات القوة.. ولكننا نمتلك كل الإيمان بالتضحية والاستشهاد.. ولدينا طيارون جاهزون للقيام بعمليات استشهادية. وبعدها سقط في بيروت 042 جندياً من قوات المارينز وخمسون جندياً من القوات الفرنسية ودمر تدميراً كاملاً موقع القيادة الإسرائيلية في صور. ظل القائد الخالد حافظ الأسد حريصاً على قرار عربي موحد لمواجهة المفاوضات وبخاصة دول الجوار المحيطة ورأى في خروج الفلسطينيين على القرار الموحد ضعفاً وتمزيقاً لقوة وحدة المسارات العربية وأن أمريكا هي التي عملت على تفكيك وحدة الموقف. كان يرى أن كل نقطة في اتفاق أوسلوا تحتاج إلى اتفاق وأثبتت الأيام فيما بعد أن كل تفصيل في هذا الاتفاق يحتاج إلى واري ريفير.. وكل تفسير يحتاج إلى جهد دولي ويؤدي إلى تنازلات جديدة. كانت مخاوف الرئيس الأسد على السلام نفسه تنبع من أن أية اتفاقية لا تأخذ بعين الاعتبار الحقوق كما الواجبات وتتجاهل الحقائق التاريخية والجغرافية والإنسانية ستؤدي في كل لحظة تنقلب فيها الموازين لصالح إسرائيل. لولا تلك العقائدية التي يمتلكها الرئيس الأسد ولولا تلك الحكمة التي يختزنها ولولا تلك المهارة العقائدية التي أظهرها في التعامل مع كل عنوان سياسي برز في وجهه لكانت ثمة متغيرات حدثت على الخارطة العربية سياسياً واقتصادياً.. ولكان الصمود العري تحول إلى نقطة الانكسار والاندفاع نحو عدد من الأطراف العربية وبخاصة بعد مؤتمر مدريد عام 1991.. ولكن أوقف كل ذلك.. واعتبر الرئيس الأسد أن أي سلام سياسي أو سلام تاريخي يجب أن يمر دون شك أولاً بالانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران والاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب العربي الفلسطيني بما فيها حقه في العودة إلى أرض وإقامة دولته الوطنية وعاصمتها القدس. نظرية الأمن القومي العربي في فكر حافظ الأسد ليست في اتفاقيات الدفاع المشترك وحسب وإنما في الاقتصاد أيضاً وفي السياسية والإعلام والثقافة.. فالأمن العربي وحدة لا تتجزأ كرد على واقع التجزئة وتأثيراته الضارة على مستقبل النظام الإقليمي العربي. وأن تهديد الأمن القومي العربي يأتي من خارج النظام القومي العربي لامن داخله إذ لا يعقل أن تقوم دولة عربية بالاعتداء على دولة عربية أخرى. وإسرائيل هي مصدر التهديد الأساسي للأمن القومي العربي.. وإن قضية فلسطين قضية قومية تطال تأثيراتها جميع الأقطار العربية ولو بدرجات مختلفة.. وتقع مسؤولية حلها على العرب جميعاً. يقول السيد الرئيس قضية فلسطين قضية عربية مصيرية والتضامن كما نراه فعل إيجابي دوره في السلم يماثل دوره في مرحلة التصدي للعدوان وهو في الحالين ضرورة قومية وحضارية وإنسانية. في العاشر من حزيران كان رحيل القائد التاريخي الاستثناء.. العظماء يرحلون ولا يموتون.. لأنهم يتركون في ذاكرتنا ووجداننا مجيد أعمالهم ووهج أفكارهم ونبل سيرتهم.. والرئيس الخالد حافظ الأسد ترك لنا قائداً تربى في مدرسته النضالية فاعتنق مبادئه، وحمل رايته.. وأبحر من مرافئه إلى شواطئ الوطن الواسع.. إنه الرئيس بشار الأسد الذي توجهت إليه قلوب الجماهير..وبايعته قبل أن تبايعه جهات القرار الرسمي.. فكان قرار مبايعته قراراً جماهيرياً ونضالياً أعلنه الوطن وفاء للقائد الراحل.. واقتناعاً بالرئيس الشاب بشار الأسد بأنه المؤهل نضالياً وأخلاقياً وعقائدياً للمضي نحو مرتسمات الأمة وثوابتها.‏‏