أكاديمي سعودي يعرّي قناة العربية في "عيدها" الخامس! (2)


 أن أبرز ما يؤكد وقوف القناة ضد مصالح الشعوب العربية وقيمها وثقافتها هو تماهيها مع الخطاب الصهيوني, فلم تسقط وصف (الشهداء) عن الضحايا الفلسطينيين فحسب, بل أسقطت صفة (الاحتلال) عن الجيش الإسرائيلي, وهي التي يعرف بها دوليا, وسمته (الجيش الإسرائيلي) أو (القوات الإسرائيلية) أو (قوات الأمن), ويمكن ملاحظة هذا في نشرات الأخبار أو الشريط الإخباري (معنى هذا أنه حتى أراضي 1967 هي أراض غير محتلة في نظر قناة العربية). كما شرعت القناة مؤخرا في وصف المقاومين الفلسطينيين (بالمسلحين), ووصف القتلى الإسرائيليين (بالضحايا), وهما مصطلحان جديدان أزعم أن (العربية) لم تسبق إليهما عربيا (ربما وصفت المقاومين أحيانا بالناشطين, وهو تعبير له مدلول سياسي أو إنساني ولا علاقة واضحة له بالعمل العسكري, كل ذلك لتتفادى القناة مفردات المقاومة). ومن يدري, ربما نصحو يوما على سماع عبارة (الشهداء الإسرائيليين) من أفواه مذيعات القناة "الأقرب إلى الحقيقة". في إطار تناولها عمليات المداهمة والتوغل في الأرض المحتلة تكتب القناة على صدر شاشتها: "الأوضاع الأمنية في فلسطين", ما يوحي بأن المعركة ليست بين جيش محتل وشعب واقع تحت الاحتلال, بل شأن أمني محلي تعالجه إسرائيل داخل حدود أراض تملكها وتخضع قانونيا لسيادتها. بل خطت القناة خطوة أبعد من ذلك, إذ أشارت إلى إسرائيل باسم (القدس الغربية), موضحة بذلك أن القدس عاصمة لإسرائيل, وهو ما لم تعترف به حتى الولايات المتحدة الأميركية.
 
في خطاب القناة أيضا يمثل أسر المقاومين الفلسطينيين جنودا إسرائيليين (اختطافا), بينما تمثل أعمال إسرائيل المشابهة (اعتقالا). لقد كان اختطاف أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من سجنه في أريحا (اعتقالا) في رأي القناة, بينما كان بالمعايير الموضوعية (اختطافا), حيث تم بالإغارة على أرض محتلة, في تحد للسلطة الشرعية في تلك الأرض, وانتهاك للاتفاقات الموقعة معها بضمانات دولية. أما أسر المقاومة الفلسطينية الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت (أصبح اسمه مشهورا, بينما أسرانا يحسبون بالأرقام فقط,, ولا نعرف أسماءهم) فقد سمته (العربية) اختطافا. وسمت القناة اختطاف الدكتور عزيز الدويك رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني (اعتقالا) بينما هو بالمعايير الموضوعية اختطاف.لماذا تنهج (العربية) هذا النهج؟ وما الفرق بين (الاعتقال) و(الاختطاف)؟ أليست العبارتان تدلان على الشيء نفسه, أو(محصلة بعضها) كما يقول المصريون؟ لا, ليس كذلك. الاعتقال سلوك أمني تقوم به دول ذات سيادة لحماية مصالحها, بينما الاختطاف سلوك إرهابي إجرامي لا تقوم به سوى العصابات. وهكذا يريد مروجو هذه التوصيفات أن يقولوا لنا إن إسرائيل دولة, وإن مقاوميها ليسوا سوى جماعات فوضوية غير منضبطة وغير قانونية وغير أخلاقية.
 
تناول أحداث غزة
 
وفي هذا السياق لا بد من التوقف عند تناول القناة لحدث سيطرة حركة حماس على قطاع غزة. كالعادة, فإن موقف الراشد الذي يعلنه بوضوح في عموده اليومي في (الشرق الأوسط) هو الذي يعاد إنتاجه في التناول الإخباري والتحليلي للقناة, بما في ذلك المقابلات وما يتم اختياره من الصحافة العربية والأجنبية, وهو ما يجعل قناة العربية أحادية ومؤدلجة. لقد تبنت القناة وجهة نظر حركة فتح بالكامل, وقامت بنقل كل المؤتمرات الصحافية لقادتها مباشرة, بما في ذلك مؤتمرات مسؤولي مخابراتها الذين لم يكن لديهم سوى توجيه تهم الظلامية والقتل لحركة حماس. في المقابل تجاهلت القناة مؤتمرات قادة حكومة الوحدة الوطنية في غزة, وأعضاء المجلس التشريعي المنتسبين إلى حماس, ولم تشر إليها إلا في إطار التناول الإخباري, وبشكل محدود وبطريقة مبتسرة وملونة. في مستهل الأحداث, صورت القناة سيطرة حماس على القطاع بأنها حركة خارجة على القانون, ووصفتها لاحقا "بالانقلاب على الشرعية". ولما أشيع خبر اقتحام منزل ياسر عرفات في غزة, كتبت العربية على صدر شاشتها: "مسلحو حماس يسرقون منزل ياسر عرفات". الخبر طبعا مصدره فتح, وكان الأولى مهنيا أن تنسب القناة الخبر إلى مصدره غير المستقل, لكنها لم تفعل. واستخدمت كلمة (يسرقون), مع أن الكلمة المستخدمة صحافيا في مثل هذا الموقف هي (ينهبون), لكن الخيال المريض لمحرر القناة عمد إلى اختيار هذه الكلمة ليوحي أن كتائب القسام ليسوا أكثر من لصوص وقطاع طرق. وتجاهلت القناة رد حماس على هذا الزعم ولم تشر إليه ألبتة في نشراتها اللاحقة. كما وصفت القناة كتائب عز الدين القسام والقوة التنفيذية التابعة للحكومة في غزة (بالميليشيا), بل أحجمت عن وصف حكومة هنية (بالمقالة) وهي الصفة التي أطلقتها عليها أكثر وسائل الإعلام والفضائيات (بما فيها قنوات الجزيرة والحرة والبي. بي. سي), مبتدعة صفة (المنحلة), ولأهل اللغة العربية أن يتأملوا دلالات هذه الكلمة الشيطانية التي تفردت بها (العربية).
 
في سياق تناولها للأحداث ذكرت القناة أن "إسرائيل تجلي جرحى فلسطينيين في معبر ايريتز لعلاجهم في إسرائيل", وهو خبر غريب وربما كان غير صحيح, لكنه يؤدي الهدف, ويوحي بالإنسانية التي يتمتع بها الإسرائيلي في مقابل العجز والبؤس اللذين يتردى فيهما قطاع غزة. ولما ألقى إسماعيل هنية خطابه الشهير الذي استغرق قرابة الساعتين في الرابع والعشرين من حزيران/ يونيو 2007, باسطا فيه موقف حكومته وحركته من الأحداث وأسبابها وتداعياتها, تجاهلته العربية, ولم تقم بنقله على الهواء ولا بثه لاحقا, فيما نقلته فضائيات عديدة أبرزها الجزيرة, التي نقلته مباشرة في قناتيها بتمامه. ولم تقف العربية عند هذا الحد, بل حاولت تشويه خطاب هنية في نشراتها, وتصدر شاشتها هذا العنوان: "هنية يهاجم الأردن ومصر". كان ذلك حشفا وسوء كيل, فهنية لم يهاجم مطلقا مصر والأردن, وكل ما قاله إن الجري وراء قمم فلسطينية عربية إسرائيلية مشتركة لن يقود إلا إلى سراب, ولن يحقق شيئا للشعب الفلسطيني (في إشارة إلى اجتماع شرم الشيخ). لكن القناة بخبثها المعهود صورت كلمات رئيس الوزراء بوصفها هجوما على دولتين عربيتين, تحريضا وافتراء وخداعا.
 
ومن اللافت أن قناة الحرة (الأميركية) نقلت تصريحات هنية بشكل أقرب إلى التوازن حيث ذكرت أن "إسماعيل هنية رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة يتهم الولايات المتحدة وإسرائيل بعدم تقديم أي تسوية مقبولة للشعب الفلسطيني", مضيفة أنه حذر قمة شرم الشيخ "من اتخاذ ما أسماه سياسة مشتركة ضد قطاع غزة", فيما قالت بي. بي. سي العربية إن هنية "ينتقد قمة شرم الشيخ" (24 حزيران / يونيو 2007). تجاهلت العربية نقاطا أساسية وردت في خطاب هنية, مثل دعوته إلى الحوار للخروج من الأزمة, وتشديده على الوحدة الوطنية, والوحدة الجغرافية للضفة والقطاع, ونفيه لما تردد حول تحويل غزة إلى (إمارة إسلامية), واستنكاره لما جرى في غزة من نهب أو اعتداء, ومخاطبته العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز بصفته الرسمية (خادم الحرمين الشريفين) وتأكيده له أن حكومته ملتزمة باتفاق مكة, الذي رعته السعودية. كل ذلك لم تورده العربية, وتحدثت فقط عن هجوم مزعوم على دولتين عربيتين, بكل ما تعنيه كلمة (هجوم) في هذا المقام من قسوة وغباء. لا معنى للمهنية هنا ولا للأخلاق. إنه الحقد يعمي ويصم.
 
لقد استماتت القناة في تشويه صورة حركة حماس, منتزعة من الأحداث والتصريحات والمشاهد ما يوافق أهواءها ومواقفها. حتى البيان الختامي الذي صدر عن السعودية والأردن إثر زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز لعمان, اختارت العربية منه ما يناسبها. شدد البيان على وحدة الشعب الفلسطيني, مؤكدا أن "الانقسام الداخلي لا يخدم المصالح الوطنية الفلسطينية", لكن العربية اختارت إشارة البيان إلى دعم الدولتين للشرعية الفلسطينية بقيادة محمود عباس. والتقى سعد السيلاوي مراسل القناة في عمان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل ليسأله عن التدخلات الإيرانية في الشأن الفلسطيني والتي أفضت إلى أحداث غزة على حد زعمه, فرد عليه الأمير بالقول إن الشعب الفلسطيني أوعى من أن يسلم قراره ومصيره إلى إيران أو غيرها.
 
الإسلام "المثير للجدل"
 
أما ما يتعلق بتناول الإسلام وقضاياه, فقناة العربية (وموقعها أيضا على الإنترنت الذي يستحق دراسة مستقلة) يوحيان من خلال الأخبار والتحليلات أن "كل شيء" في الإسلام, بما في ذلك ثوابته ونصوصه القطعية قابل للمناقشة والرفض والاحتجاج. عندما يهاجم الإسلام مثلا أو تشن حملة على أحد شعائره أو رموزه تبادر (العربية) قناة وموقعا إلى تهوين الأمر, وتستخدم عبارة غريبة هي (مثير للجدل) لوصف تداعيات الموقف أو الحدث أو التصريح الذي ينال من الإسلام. مثلا, وصف موقع العربية تصريحات البابا بنديكتوس السادس عشر عن الإسلام بأنها "مثيرة للجدل", ولم يصفها بصفتها الموضوعية وهي (الإهانات) أو (الإساءات) (24 أيلول/ سبتمبر 2006). كما وصف الموقع هجوم وزير الثقافة المصري فاروق حسني على الحجاب وزعمه أنه "عودة إلى الوراء", بالتصريح "المثير للجدل" (21 تشرين الثاني / نوفمبر 2006). وعندما طالب الأزهر بمصادرة مسرحية نوال السعداوي "سقوط الإله في اجتماع القمة" في شهر آذار (مارس) 2007 مؤكدا في حيثيات قراره أن السعداوي "أهانت الذات الإلهية، وسبت الأنبياء وتهكمت عليهم مع تصوير الشخصيات في مسرحيتها بصورة أقل ما توصف به هو أنه كفر صريح"، قال موقع العربية إن القرار" أحدث جدلا واسعا بين علماء الدين والمثقفين", ولم ينس أن يضيف أن الكاتبة تعرضت للتهديد بالقتل من "متطرفين" (29 آذار/ مارس 2007). ومن المعلوم أن وصف التهجم على شيء مقدس بأنه "مثير للجدل" ينزع عنه صفة القداسة, ويجعله مجرد رأي. هذا النهج يجعل كل ثوابت الإسلام وقطعياته آراء قابلة للأخذ والرد تحت ذريعة "موضوعية" مغتصبة ومكذوبة.
 
لا يمثل عبد الرحمن الراشد وعدد من زملائه في صحيفة الشرق الأوسط وقناة العربية وموقعها (وكذلك موقع إيلاف الأوضح تطرفا والذي يرأسه عثمان العمير, وكان رئيس تحرير سابقا للشرق الأوسط) سوى بنادق مستأجرة. إن جناية الرجل على الموضوعية والمهنية واحترام ثقافة المجتمع العربي وقيمه الإسلامية سواء في كتاباته أو في رؤاه وسياساته التي يرسمها في قناة (العربية) لهي كبيرة, وكبيرة جدا. ولا ريب أن التاريخ سيسجل هذه الرؤى والسياسات, ولكن في صفحات سوداء, لأنها ببساطة غير وطنية وغير إسلامية ومنبتة الصلة بالواقع. لن تكتب لظاهرة (الليبراليين الجدد) وعلى رأسهم الراشد البقاء والتأثير, لأن الزبد يذهب جفاء, وما ينفع الناس يمكث في الأرض. لن يضرونا إلا أذى.
 
تم نقل هذا المقال (بتصرف ضئيل) عن موقع "علوشتان" وهذا هو الرابط: