محمد بن سعيد الفطيسي
قبل 60 سنة , وبالتحديد في صيف العام 1948 م , شهدت زوايا شوارع مانهاتن الاميركية , مشاهد مسرحية هزلية غريبة , كتبت فصولها الدموية , ومشاهدها الافتتاحية الإجرامية الصهيونية العالمية , حيث نصبت مكبرات الصوت على السيارات الكبيرة والمنابر , وراحت تخور متوسلة الى الأميركيين أن يعطوا دولارا ليقتلوا عربيا
, وهي حادثة موثقة في كثير من الصحف والدوريات الأجنبية , - راجع كتاب ادفع دولارا تقتل عربيا للصحفي الاميركي المنصف لورانس غريزوولد – ومن وقتها , ودمنا العربي يتاجر به على أرصفة الشوارع , وتحت قباب البرلمانات وفي جل المحافل الدولية , لدرجة أن يمتهن ذلك الدم , فيتساوى بالماء , لا طعم , ولا لون , ولا رائحة له , بحسب تشبيه الشاعر العربي الكبير فاروق شوشه في قصيدته الرائعة , " أخيرا يقول الدم العربي " تلك التي يعبر فيها عن الوضع المزري الذي آلت إليه الحالة العربية بوجه عام , وحال الدم العربي المستباح في كل مكان على وجه الخصوص , - وللأسف – فان هذه هي الحقيقة المؤلمة التي لابد من التأقلم عليها حتى إشعار آخر , وإلا فما يعني أن يتساوى الدم العربي , بأي سلعة رخيصة يزايد على استباحتها في مزادات الصهيونية وأسواق الاستعمار 0
وانطلاقا من تلك الواقعة التي شكلت نقطة البداية لفصول مسرحية الاستعمار الصهيواميركي في عالمنا العربي, تتكرر مشاهد الألم والأسى على ضفاف النهر العربي الأحمر كل يوم , ليتحول ذلك الدم الى مورد خصب يروي ظمأ الصهيونية العطشى للإجرام والإرهاب , فمن البندقية الى المسرحية , ومن النثر الى الشعر , فهذا الشاعر الصهيوني شلومو غروفيلسكي , والذي يعيش بالولايات المتحدة الاميركية يخاطب قادة الإرهاب الصهيوني بهذه الكلمات الدموية المتشبعة بالعنصرية والهلوسة والجنون , مطالبا إياهم بتوظيف آلات الحقد الصهيواميريكي لقتل المسلمين والعرب أينما وجدوا ودون استثناء , قائلا :- لو أنهم تلاميذ مجتهدون , - أي – قادة الإرهاب في المستعمرة الإسرائيلية الكبرى , لكانوا استخدموا الدبابة من مسافة قريبة , ودمروا البيوت والشوارع ولم يتركوا أحدًا , وبهذا يكونون قد حافظوا على طهارة السلاح , 000 اعتمر الخوذة استعدادًا لمسيرة الدم جائلاً بعينين إلى نار الحمقى , امتشاق السيف جزء من آدميته 000 لو كنت قائدًا لزرعت الموت والدمار في كل المزارع والشوارع , في كل المساجد والكنائس , نشيد الاغتصاب الجماعي , فالحرب المقبلة ننشئها000نربيها , مابين حجرات النوم000وحجرات الأولاد 0
وبهذه الكلمات المتأججة بنار الحقد الأعمى تجاه كل ما هو إسلامي وعربي تشهر أقلامهم المسمومة من جهة , أما من جهة أخرى فدباباتهم تترصد براءة الأطفال ووقار الشيوخ والمسنين والنساء ليل نهار , ففي عقيدتهم المتزمتة أن كل الدماء مستباحة , فلا طهارة في هذا الوجود سوى لدم واحد , هو الدم الصهيوني , ولا قدسية سوى لإله يتحدثون عن تفوقه على الآلهة الأخرى قاطبة , انه الإله العبراني , وفي هذا السياق يقول الحاخام الصهيوني كوهين في كتابه المعنون بالتلمود , من انه ( يمكن تقسيم سكان العالم الى قسمين , إسرائيل من جهة , والأمم الأخرى مجتمعة من جهة أخرى , فإسرائيل هي الشعب المختار ) , وهكذا فان الفكر الصهيوني هو مزيج متشبع بالعنصرية والإرهاب وسفك الدماء , أما المنظر السائد في المستعمرة الإسرائيلية الكبرى فهو منظر الحرب والدمار, فالحرب فقط هي المسيطر على عقول الصهاينة في كل أرجاء العالم , ( فالأعوام التي مر بها تاريخ اليهود منذ بدء الصراع العربي الإسرائيلي قد أفضت بالإسرائيليين الى نتيجة واحدة , هي أن السياسة الحالية ستحل مشكلة اليهود , والسياسة الحالية لليهود بالطبع , هي سياسة القوة والعنف و الحرب , والتعامل مع الفلسطينيين والدول العربية المجاورة من خلال فوهة البندقية ) 0
وكما هو واضح من خلال استقراء التاريخ , ومراحل الصراع العربي الصهيوني , يتضح لنا بان النزق الصهيواميريكي الى الدم العربي , هو حقيقة تتجلى مشاهدها المأساوية كل يوم أمام أعين المجتمع الدولي الأخرس , ومؤسساته الحقوقية والمدنية الديمقراطية كما تدعي , وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة , ومجلس الأمن الدولي , وذلك في صور القتل والإرهاب والعنصرية والدمار والإبادة الجماعية للجنس المسلم العربي , في فلسطين والعراق وغيرها من ساحات الصراع الصهيواميركي في عالمنا الإسلامي والعربي , وآخرها ما كان من إرهاب إسرائيلي إجرامي على قطاع غزة الفلسطيني , وهو ما أطلقت عليه إسرائيل بالشتاء الساخن , - ونطلق عليه بهولوكوست العصر الحديث - مخلفتا في تلك المحرقة الصهيواميريكية , ما يزيد عن 120 قتيلا , بينهم أطفال رضع لم تتجاوز أعمارهم السنة الواحدة , ومدنين من الشيوخ والعجائز , لم يكن ذنبهم في هذه الحرب سوى أنهم وجدوا في زمن تباع فيها الإنسانية والكرامة والحرية بثمن بخس , وخصوصا حينما تكون عربية الدم والمنشأ 0
نعم 00 فلقد حولت آلة الحقد الصهيواميريكي قطاع غزة الى ارض تفتقر الى ابسط مقومات الحياة والبقاء , وبمعنى آخر , فان اقرب تصوير يمكن إطلاقه على ما حدث في هذه الجزء من الأرض العربية , هو ما شدد على وصفه بعض القادة الصهاينة بالمحرقة , وهي حقيقة أكدتها المشاهد الإجرامية للشهداء من الأطفال والمدنيين, وتقارير المنظمات الدولية التي راقبت الوضع , ففي تقرير تشاركت في وضعه كل من منظمة "العفو الدولية ومنظمة "كير انترناشيونال و"المنظمة الكاثوليكية لتنمية ما وراء البحار" وكريستشن أيد" وأطباء العالم و"اوكسفام" و"سيف ذي تشيلدرن" و"الوكالة الايرلندية لأعمال البر والتنمية , والتي أكدت من خلاله بان "وضع 1,5 مليون فلسطيني في قطاع غزة هو الأسوأ منذ بداية الاحتلال العسكري الإسرائيلي في 1967م , كما أشار التقرير نفسه الى أن الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة , قد أدى الى شح المواد الأساسية والى انقطاع في التيار الكهربائي , وبالتالي فهو "يشكل عقابا جماعيا يطال كل سكان القطاع , وقال جيفري دنيس احد مسؤولي منظمة "كير انترناشيونال بريطانيا" انه " إن لم ينته الحصار الآن فسيكون من المستحيل تفادي حدوث كارثة في غزة وسيتم القضاء على كافة آمال السلام في المنطقة " 0
وللأسف – فقد ساهم في هذا الاجتراء السافر على كل ما هو إسلامي وعربي , بداية من الإنسان وكرامته وحرياته , ومرورا بالأرض العربية وثرواتها ومقدرات شعوبها , وليس انتهاء بالمقدسات الدينية الإسلامية منها والمسيحية , ضعف الإرادة السياسية العربية المتمثلة في الموقف الرسمي على وجه التحديد , وترهل المواقف العربية وانقسامها ما بين الخلافات والمصالح الداخلية والتبعية الأجنبية وغيرها من صور الفرقة والتشرذم , بالرغم من صراحة ووضوح الموقف الصهيوني على مختلف المستويات في شان احتلالهم للأرض الفلسطينية , وبقية الأراضي العربية في لبنان وسوريا على سبيل المثال لا الحصر , وذلك من خلال أفكارهم وخطاباتهم وتعاملاتهم مع المفاوضين العرب خلال مراحل هذا الصراع الدموي في الشرق الأوسط , واعترافهم بما لا يدع مجالا للشك , في مخططاتهم التوسعية والاستعمارية , باستحالة قيام أي نوع من السلام مع العرب , والدليل على ذلك واضح من خلال سعيهم المستمر والمتكرر لإجهاض كل عمليات السلام 0
إلا أننا كعرب أغفلنا او تغافلنا تلك الحقائق التاريخية والسياسية الصريحة , وبقينا متشبثين بأوهام السلام مع مستعمرة لا تعرف معنى السلام , سوى من خلال لغة الدم والدمار والحروب والإبادة الجماعية , فإلى متى سيستمر جريان هذا الدم العربي , بهذه الصورة المؤلمة والمحزنة ؟ وما من حراك دولي او عربي يحتوي هذا الإرهاب الصهيوني المتكرر , في عالم باتت فيه سعادة الضعفاء جرم , ماله عند القوي سوى اشد عقاب ! والشرع المقدس هاهنا في عالم الصهيونية , هو رأي القوي وفكرة الغلاب , والسلام حقيقة مكذوبة , والعدل فلسفة اللهيب الخابي , كما يراها الشاعر العربي الكبير أبي القاسم ألشابي في قصيدته المشهورة " فلسفة الثعبان المقدس " 0