د. محمد احمد النابلسي*
بدأ عصر النهايات مع نجاح بوش الأب في إطلاق النظام العالمي الجديد بعد تشكيله الإئتلاف الدولي لتحرير الكويت. فتلك الحرب ألغت المنظمات الإقليمية وبخاصة جامعة الدول العربية التي لم يسمح لها ولا بمجرد محاولة التوسط في الخلاف الكويتي العراقي. فجاءت حرب بوش الأب لتضع بداية عصر النهايات.
تلك الحرب قالت بنهاية الاتحاد السوفياتي وحصته في المصالح كما قالت بنهاية الجامعة العربية ومعها المؤسسات الإقليمية. أيضاً قالت تلك الحرب بنهاية التفاهمات الإقليمية وما سمي يوماً بحسن الجوار لتتكرس الولايات المتحدة قطباً عالمياً أوحد ومرجعية وحيدة للعالم ودوله.
هكذا إنطلق المفكر فوكوياما في طرح نظريته حول "نهاية التـاريخ" فالتاريخ تصنعه النزاعات وخلافات الأقوياء وهو يفقد دوره عندما تتركز القوة بيد واحدة هي اليد الأميركية.
ثم توالت نظريات النهايات فكانت نهايات القوميات والايديولوجيات وكذلك نهاية الديمقراطيات على غير النمط الأميركي. لتبقى الديمقراطية الأميركية سيدة العالم على حساب باقي نظريات الديمقراطية.
وجاء الإعلان الأميركي عن نشر الديمقراطية في العالم العربي والذي تولى الاعلان عنه كولن باول وزير الخارجية آنذاك. والطريف أن واشنطن خصصت للمشروع رأسمالاً قدره تسعة وعشرون مليون دولار. أي انها خصصت بضعة سنتات لكل إنسان عربي لتحضيره وتحويله الى الديمقراطية. وهو ما كان مثار سخرية البعض وتعجب البعض الآخر.
جاءنا بوش الإبن ليبدأ بتلقيننا الدروس حول الديمقراطية الموعودة. وكان سقوط بغداد أول الدروس وسط حرب أطلق عليها تسمية "الصـدمة والترويع". وكانت التسمية وحدها الموفقة وليست الحرب. فقد نجح الجيش الأميركي في نشر الصدمة والترويع والخنوع والإستسلام لدى شعوب المنطقة دون أن ينجح في الإستقرار بالعراق ودون أن يقنع أحداً بإخضاع ذلك البلد للمشيئة الأميركية.
يومها بدأ الإعلام الاميركي بإستثمار جرائم جيشه في العراق فراح يتحدث عن المحطة التالية بعد بغداد وراح يرشح العواصم العربية لتطبيق مباديء التدمير عليها. ولم تتوقف هذه التهديدات إلا بعد إدراك الأميركيين بأنهم لم يخترعوا جديداً بممارستهم مباديء الإستعمار القديم. وهو ما بينته انطلاقة المقاومة العراقية التي منعت واشنطن من طموح الانتقال لعواصم أخرى وأوقعتها في المستنقع العراقي الذي لم تخرج منه لغاية الآن. وانحسر النجاح الأميركي في جانب الحرب النفسية. حيث راحت الشعوب مدفوعة بخوفها تسعى لتجنب المصير العراقي وباتت نافرة من أية دولة أو جهة ممانعة لواشنطن. بل هي باتت تبحث عن أصدقاء أميركا علهم يجنبون هذه الشعوب المصير العراقي.
لقد نجح بوش في زرع الخوف في قلوب الجميع من المواطن العادي وحتى رؤساء الدول. وهو رسخ هذه المخاوف عن طريق الإستمرار في توجيه التهديدات وإستعراض التنازلات المقدمة له لقاء هذه التهديدات. وبذلك عاد بوش الى مبدأ سابقيه من الرؤساء الأميركيين وهو القائل بأن التهديد بالقوة أكثر فائدة من إستخدامها الفعلي. وإن كانت مصادر وخبرات تؤكد عجز بوش عن خوض اية حرب أخرى.
اليوم ونحن نراجع حسنات ومكاسب الديمقراطية الاميركية نجد وراءنا مليون قتيل عراقي بسبب الإحتلال الأميركي. ونجد العراق بلداً ممزقاً قد يكون عراق صدام حسين حلماً بالمقارنة معه حتى بالنسبة لأعداء صدام ومعارضيه. كما نجد العراق وقد تحول من دولة تملك أكبر إحتياطي نفطي الى دولة متسولة يعيش شعبها الفقر المذل والتهجير الأشبه بالسبي. والأهم اننا لم نعد نجد دولة اسمها العراق على الخارطة.
كل ذلك بهمة أصدقاء اميركا من العراقيين ممن أتوا على ظهر الدبابات الأميركية لإنقاذ العراق من صدام حسين فكانت النتيجة ذلك المشهد الكاريكاتوري للحكم في العراق.
وها هو العراق يقدم لنا نموذج الديمقراطية الاميركية الموعودة التي طالما حلم بها المصدومون والمروعون. فهل هي الديمقراطية التي يسعى اليها الخائفون من اميركا في لبنان وفلسطين وبعض باقي دول المنطقة؟!.
المسألة أن النتائج الكارثية لديمقراطية أو دمقرطة العراق لم تظهر كاملة بعد. فما هو العدد الحقيقي للقتلى الاميركيين في العراق وماذا عن المجندين سراً في صفوف الجيش الأميركي. وكم سجن أبو غريب هناك لتجسيد الحضارة والثقافة الرسالية الأميركية. وماذا عن أسليب التعذيب والفساد والسرقات والرشاوى وغيرها؟.... وهل يمكن للولايات المتحدة بعد انكشاف هذه المعطيات ان تدعي انها دولة متحضرة؟!.
مهما يكن ومن يكن الرئيس الاميركي القادم فهو سيواجه بعضاً من الفضائح الاميركية في العراق ليكتفي بالاعتذار للشعب العراقي وربما لبعض شعوب المنطقة. ومن ثم سيقوم بخطوة حضارية ببدء الإنسحاب من العراق وفق شروط ضمان مصالح أميركا فيه وفي المنطقة.
وبالمقارنة فان ما يجري في لبنان هو بعض مما جرى في العراق وهو يخفي فضائح وكوارث انسانية سوف لن يتأخر ظهورها الى العلن. وسيكون الحساب عسيراً بعد زوال أثر الصدمة والترويع. لكن المجرمين الحقيقيين سيرحلون مع رحيل الاحتلال ولن يبقى امامنا للمحاسبة سوى حفنة من المضللين الذين غرر بهم إعلام وحشي وتهديدات غير إنسانية ووعود مجرمة في قساوة كذبها.
الأهم هو إقتراب إعلان نهاية الكابوس الأميركي ونهاية الديمقراطية الأميركية التي ترجمت في لبنان عبر الشخوص التي تدعي ما ليس لها وصولاً الى وقاحة اعتبار أنفسهم حكاماً وزعماء. والأوقح إعتبار أنفسهم ممثلين لديانات ومذاهب بعينها وهي منهم ومن تاريخهم ومن ممارساتهم براء.
إنها نهاية الديمقراطية..... فإنتظروها...
* رئيس المركز العـربي للدراسـات المستقبلية