في باريس زحمة سياسية وكلام كثير حول لبنان، الأمير سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية حل فيها في طريقه إلى الأرجنتين للمشاركة في اجتماع وزراء الخارجية العرب والأميركو- لاتينيين بعد مفاوضات واستيضاحات مع الإدارة الأميركية التي تناصب العرب والأميركو- لاتينيين العداء.
وفيها حل رئيس وزراء لبنان السيد فؤاد السنيورة، (المشرعن) دوليا والمدعوم أميركيا، لإجراء مباحثات مع الأمير سعود الفيصل والقيادة الفرنسية التي قال رئيسها أمس: إنه لن يصافح رئيساً لا يعترف بإسرائيل.
يقولون في باريس إن الرئيس السنيورة جاء ليسأل عن مصير المساعدات للبنان وأشياء أخرى ضمن إطار جولة أوروبية.
ويقولون في باريس: إن الرئيس ساركوزي عاد وكلف المبعوث الفرنسي الخاص كلود كوسران بالملف اللبناني بعد أن كان قد سحب منه هذا الملف إثر خلاف مع وزير الخارجية برنار كوشنير الذي لا يستطيع السيطرة على لسانه في ظروف بالغة السرية والتعقيد والدقة.
كل ذلك عشية إعلان أمين عام الجامعة العربية عودته القريبة إلى بيروت لاستكمال المهمة التي كلفه بها وزراء الخارجية العرب ومحاولة تنفيذ مبادرتهم تجاه لبنان.
هذه المبادرة كان دافيد ساترفيلد المكلف أصلا الملف العراقي في الإدارة الأميركية قد أعلن معارضة بلاده لها.
وباريس ما زالت تعلن دعمها لهذه المبادرة لكنها تنتظر نهايتها للإفصاح عن أفكار جديدة.
ويبدو واضحاً أن هذه الأفكار الجديدة لن تخرج من وزارة الخارجية بل من القصر الجمهوري حيث إن كوسران لم يعد موفدا من الخارجية بل من القصر. أي إن ساركوزي قرر مجدداً الحديث مع السوريين بالواسطة.
ويقولون في باريس أيضاً إن مهمة كوسران ستتجاوز خط بيروت- دمشق لتطول خط بيروت الحجاز مرورا بدمشق ووصولا إلى طهران في أكبر عملية مفاوضة سرية.
ورغم الإصرار الأميركي على رفض الحل التوافقي في لبنان ووضع اللبنانيين أمام تمديد قسري للأزمة المتمثلة بالشراكة وشروطها فإن باريس تصر على القيام بمبادرة ينسقها كوسران لا غيره تتجاوز حل المشكلة اللبنانية إلى تجنيب فرنسا ارتدادات اغتيال عماد مغنية في دمشق في أكبر عملية استخباراتية شهدها الشرق الأوسط.
فالمعلومات المتوافرة لدى الدوائر الاستخباراتية والدبلوماسية الفرنسية تؤكد تورط قوى عديدة بشكل أو بآخر في عملية الاغتيال هذه ومشاركة فاعلة ودقيقة سياسيا ولوجستيا لعدد من الدول سواء بعلم قياداتها أو بغير علمهم. والمعلومات التي ترددها الأوساط الدبلوماسية والاستخباراتية هي أن سورية باتت ممسكة بالكثير من هذه الخيوط وربما لن تستطيع الدبلوماسية حل المشكلة بسهولة.
وباريس تخشى كغيرها من العواصم العربية والدولية تفاعلات العملية سواء رد الفعل الطبيعي لحزب اللـه ولسورية أيضا، فإذا كان رد حزب اللـه المؤكد حسب باريس سيكون عملية نوعية غير متوقعة ضد إسرائيل ومصالحها فإن فرنسا تريد ألا تكون أراضيها وأمنها هو الضحية. وإذا كان الرد السوري سيأخذ طابعا أليما جداً لحلفاء إسرائيل أو للذين يعملون على عزلها عربيا بسبب (العناد) السوري حول الحقوق الطبيعية واستضافتها الدائمة للمقاومين اللبنانيين والفلسطينيين أو لتحالفها الطبيعي مع إيران في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي واستمرار دعم طهران للمقاومة والصمود العربي في فلسطين ولبنان، فإن فرنسا تريد تجنيب نفسها ومن تبقى من حلفائها هذا الكأس.
ورغم أن باريس لم تلمح إلى أي طلب سوري للمساعدة في التحقيق مع أشخاص ومنظمات تلقى رعاية على أراضيها ويمكن أن تكون قد شاركت بصورة أو بأخرى في تسهيل تنفيذ عملية الاغتيال إلا أنها لا تستبعد تنفيذ هذا الطلب ضمن إطار التعاون الأمني والقضائي بين البلدين ولا تستبعد مشاركة المفاوض جان كلود كوسران بذلك.
ففي مطلق الأحوال فإن باريس التي ترفض عادة ربط عملية الاغتيال بالملف اللبناني وتضعه ضمن إطار الحرب الاستخباراتية بين إسرائيل والمقاومة وسورية إلا أن مصادرها تعترف أن ما قبل اغتيال عماد مغنية لا يشبه ما بعده في الملف اللبناني لذا لا بد من التعامل مع الموضوع وفق هذا المعطى الجديد.
لكن أحدا في باريس لا يستطيع أن يعطي فكرة عن اتجاهات التفكير الفرنسية فوزارة الخارجية قد كفت يدها عن الملف الذي صار بالكامل في يد القصر الجمهوري والحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس ساركوزي، فالبعض يقول إن السبب هو الخطورة الاستراتيجية لهذا الملف والبعض يقلل من الأهمية فيقول إنه بسبب انشغالات الخارجية بالملفات الأخرى الدبلوماسية ملمحا إلى أن المشكلة في لبنان والشرق الأوسط ليست مشكلة دبلوماسية.
ورغم ضبابية الأفكار في باريس فإن من المؤكد أن الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس تأخذ بعين الاعتبار الأمور التالية:
أولا- إخفاق زيارة الرئيس ساركوزي إلى المملكة العربية السعودية التي رفضت بدورها إعطاء فرنسا أي دور على حساب الدور الأميركي الأكثر فعالية حسب وجهة نظرها.
التقارير المتراكمة حول صراع موازين قوى هائل وخطير داخل أروقة الحكم السعودي وتضارب المواقف حول الملف اللبناني واللبناني السوري.
ثانيا- التناقض بين الإرادة العربية لحل الملف اللبناني والموقف الأميركي الذي جعل المبادرة العربية قابلة للدخول في متاهة الأرقام والتفسيرات السطحية للأزمة، وهنا يقول دبلوماسي فرنسي مخضرم: إذا كان الهدف هو انتخاب رئيس في لبنان فهل يعني ذلك أن انتخاب الرئيس هو الحل للمشكلة اللبنانية؟ ألم يكن هناك رئيس في لبنان منذ ثلاثة أشهر فلماذا كان هناك مشكلة؟ إن الكلام عن انتخاب رئيس هو ذر للرماد في العيون إن أي حل يجب أن يبحث في المشكلة الأساسية فانتخاب الرئيس ليس سوى صورة مشير إلى انتهاء المشكلة.
ثالثا- التقارير التي تؤكد أن ثمة فروقاً في المواقف من الأزمة بين كل من مصر والسعودية من جهة والدول الخليجية المحيطة بالسعودية ودول المغرب العربي وباقي الدول العربية من جهة ثانية وإن التزمت هذه الدول الأخرى بالصمت فلأنها لا تريد تظهير الانقسام العربي الشامل لذا فإن فرنسا ترتكب خطأ استراتيجياً إذا ما استمرت طرفا في النزاع القائم حالياً وعليها أن تتعامل مع ما تحت الرماد لا مع الرماد نفسه.
رابعا: الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس تبحث في جواب عن سؤال: أي مصلحة لفرنسا في تصعيد الخلافات العربية – العربية بين بعض العرب وإيران، وما مدى صحة المخاوف العربية من إيران وطبيعة هذه المخاوف أم إنها كلمات للجم الغضب الأميركي عنهم.
خامسا- بدا واضحاً من خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسي لإسرائيل أن النتيجة الوحيدة التي خلصت إليها الزيارة هي سماح إسرائيل بإيصال كمية محدودة من الإسمنت لغزة بغية بناء محطة تنقية مياه (هذا ما جاء في تصريح الناطقة باسم الخارجية الفرنسية تاريخ 18 شباط 2008) هذا الأمر أكد للحلقة الضيقة أن الرهان على قبول إسرائيل بأي دور لفرنسا بات وهماً يجب الخروج منه والتعامل بواقعية فتصاريح الرئيس ساركوزي التي ظهر فيها إسرائيليا أكثر من زعماء إسرائيل لم تنفع.
أمام كل هذا يبدو الأمر بالنسبة لباريس أن عليها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من مصداقية لها في المنطقة وتساعد في إعادة بناء الثقة لا الرهان على التناقضات والصدامات والنزاعات وتوظيفها كما تفعل الإدارة الأميركية وعليها أن تصارح حليفها الأميركي بخطأ نهجه لا أن تسايره. كل هذا قد يكون بعد أن تأكدت أن أجهزتها ليست متورطة بشكل من الأشكال بعملية اغتيال عماد مغنية وأنها مستعدة للمساعدة في التحقيق رغم موقفها المعلن الذي أسفت فيه لعدم مثول مغنية أمام القضاء للإجابة عن التهم الموجهة إليه.
خامسا: تعتبر المصادر الفرنسية أن الأغلبية النيابية اللبنانية لم تتصرف بمسؤولية تجاه الوضع العام وأن خطابها السياسي عاش على نبض مصالح الولايات المتحدة الأميركية ودفع الأمور نجو تدويل الأزمة وأن لا مصلحة لفرنسا بالتدويل إطلاقاً فالتدويل يفقد فرنسا بقايا دورها في الساحة الشرق أوسطية ولبنان وخاصة أن عليها أن تدفع باتجاه إعادة تأطير الأزمة بواقعية وبأفكار بسيطة.