
قرأت أن المفكر العربي الفلسطيني الذي حصل على الجنسية الأمريكية " إدوارد سعيد " ذهب إلى منزل عائلته في حيفا الذي ولد وترعرع فيه، وكان قد احتله فيلسوف صهيوني له عدد من الكتب التي تتحدث عن السلام والعدالة والإخاء الإنساني، وقال إدوارد للفيلسوف الصهيوني : " : أعد لي بيتي إنك غيرت الأكرة ..لكن المفتاح هاهو معي ؟ "..صعق الفيلسوف الصهيوني ولم يكن يعلم أن إدوارد سعيد الذي رفعته أمريكا إلى أعلى مقامات العقل هو فلسطيني يحمل مفتاح بيته في جيبه .. وهو الآن يطرح السؤال الإنساني كاملا .. في تلك اللحظة تخلى الفيلسوف الصهيوني عن كل ككتاباته ورفض أن يسلم المفتاح لصاحبه.
السؤال الذي طرحه إدوارد سعيد على الفيلسوف الصهيوني يطرحه الشعب العراقي من جديد على الإدارة الأمريكية : هل ستسلم أمريكا المفتاح لأصحاب الدار ؟!
العراقيون لا يملكون أجوبة محددة.. والسؤال يبقى معلقا بالنظر للغموض الذي يلف الاستراتجية الأمريكية في المنطقة والأجندة المعلنة لإنسحاب القوات الأمريكية من العراق.
قبل أيام أعلن وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس أنه خلافا للتوقعات السابقة سيكون من المستحيل خفض عدد الجنود الأمريكيين في العراق إلى أقل من 130000 جندي. هذا الإعتراف يعطي دليلا قاطعا على أن الاستراتجية العسكرية في العراق فشلت حتى بعد قرار جورج بوش في كانون الثاني/ يناير 2007 إرسال 30000 جندي إضافي و تطبيق تكتيك جديد بهدف ضبط الوضع الأمني في العراق مما يساعد في الأشهر الستة التالية على خفض عدد الجنود الأمريكيين إلى أقل من 10.000 جندي.
وقد يرى الكثير أن الهجمات و العمليات الانتحارية ضد القوات الأمريكية ليست بنفس الكثافة السابقة وتراجعت إلى المستوى الذي كانت عليه في سنة 2005 ، إلا أن هذا التراجع على جبهة المواجهات يعتبر مرحلي فقط جاء كنتيجة لإعلان وقف إطلاق النار المعلن من جانب واحد من قبل الميليشيا الشيعية الرئيسية ( جيش المهدي) ، وعلى الأرض تجد القوات الأمريكية صعوبة كبيرة في السيطرة على تنامي قوات الدفاع الذاتي في صفوف السنة الذين قامت بتجنيدهم وتسليحهم.
ومن هذا المنظور، يبقى التحسن المعلن عنه نسبي لا سيما وأن خطة الإدارة الأمريكية في العراق ة لم تهيء الظروف لإحراز تقدم سياسي يسمح بتشكيل حكومة وسلطة وطنية عراقية قادرة على قيادة البلاد بآمان .
والواضح الآن أن ما لايقل عن 130000 جندي أمريكي سيتواصل وجودهم على أرض العراق حتى بعد تاريخ 20 كانون الثاني/ يناير 2009 عندما يغادر جورج بوش البيت الأبيض.
الجميع يدرك، بمن فيهم بوش نفسه، بأن الفشل في العراق و العمل الذي لم ينجز لا يثير إستياء إدارته.. فخلفه " المهدي الأمريكي المنتظر " سيجد نفسه مكبل الأيدي ولن يكون أمامه من حل إلا مواصلة نفس السياسة التي طبقت منذ غزو العراق في اذار / مارس 2003 على الأقل لبضعة أشهر أخرى.
الجميع فقدوا ثقتهم في الإدارة الأمريكية الحالية التي غزت العراق لأسباب ملفقة .. فأسلحة الدمار الشامل و العلاقة مع القاعدة كانت التي استعملت كذريعة لشن الحرب كانت أكاذيب زائفة وملفقة بالكامل. أما حكاية إقامة نظام ديمقراطي في العراق وفي قلب الشرق الأوسط ليصبح نموذجا للمنطقة بأسرها فكانت مجرد ضحك على الذقون ووهم صدقه الأغبياء طبعا !
الإنسان لايحتاج لعبقرية أمريكية ليعرف النتيجة في العراق.. الدولة العراقية لم تعد موجودة، دمر العمود الفقري الإداري بالكامل، وتم تفكيك الهيكل الإجتماعي للبلاد بطريقة غير مسبوقة.
عدد الإصابات بين المدنيين تجاوز المليون، في حين أن العنف الطائفي و الديني إضطر ما يقرب 4.5 مليون عراقي على ترك بيوتهم ، ونصفهم هاجر للإقامة في دول الجوار في ظروف قاسية جدا.
وفي الجانب الأمريكي قتل 4000 جندي وعدد الجرحى تجاوز هذا الرقم بعشرات المرات. أما الكلفة التي أنفقت على حرب غير مبررة بلغت 690 مليار دولار حتى الآن، وهي في إرتفاع مستمر بمعدل أكثر بقليل من 3.5 مليون دولار أسبوعيا.
الإدارة الأمريكية تنظر إلى هذا التقييم من زاوية أخرى، فالإخفاقات الناجمة عن الاستراتيجية المعتمدة هي نجاح محقق تعمل على تثمينه.
ولابد من التذكير أن تدمير الدولة العراقية سهل مهمة أمريكا في إختيار وتنصيب بعض الساسة العراقيين الذين لبسوا رداء الإحتلال وسارعوا جريا و حبوا لتقديم الولاء لأمهم الجديدة أمريكا ورافعين شعاراتها لضمان المصالح السياسية والإقتصادية .. وكيف لا والأمريكي يملي .. والسياسي العراقي " العميل " ينفذ ولايعصي لولي نعمته أمرا إلى درجة أن هناك من يرى في الوجود الأمريكي ضرورة ملحة وعامل إستقرار والبديل الوحيد في حالة حصول فراغ خطير. بل إن المجتمع الدولي الذي يخشى تدهور وإنفجار الأوضاع في هذه المنطقة الاستراتجية بما تمثله من خزان نفطي كبير يضمن ثلثين من إحتياجات النفط في العالم أبدى رغبة واضحة في بقاء القوات الأمريكية على أرض العراق. هذا الوجود العسكري أتاح لأمريكا فرصة توطيد نفوذها في المنطقة ، ويسمح أيضا بتوسيع دائرة هذا النفوذ ليشمل مناطق آخرى في آسيا الوسطى.
اليوم في العراق خراب و أطلال رغم أن أمريكا تراهن على عملية إعادة البناء التي تقول أنها مضمونة بالنظر إلى أن العراق يملك ثاني إحتياطي من النفط في العالم مما يمنحه مداخيل مالية كبير في ظل الأسعار الحالية للبترول في الأسواق العالمية.
في هذا السياق فإن سقوط الضحايا من المدنيين و العسكريين، لا يمثل عاملا حاسما في معادلة الإنسحاب حتى وإن كان 80 في المئة من المواطنين يريدون رحيل القوات الأمريكية، إلا أن هذا لا يعني شيئا لإدارة بوش لذلك فهي تفاوض حكومة " المنطقة الخضراء" على إتفاق أو معاهدة لتنظيم الوجود الأمريكي في العراق بعد أن تنتهي في 31 كانون الأول 2008 إنتدابها بموجب تفويض الأمم المتحدة.
ويبقى السؤال مطروحا : هل ستسلم أمريكا المفتاح لأصحاب الدار وترحل ؟!
جـوابي : لا .