اغتيال مدينة "القدس" !


 
 
 
 
محمد العبد الله
عادت معركة الدفاع عن عروبة القدس تتصدر الأنباء، لأن مايحصل للمدينة ومحيطها من عمليات تهويد لايقل بوقائعه ونتائجه عما تفعله آلة العدوان الصهيونية، التي تمارس وحشيتها المتنقلة من مخيم "البريج" حيث المجزرة الوحشية التي أحدثها سقوط القنبلة الفراغية التدميرية على منزل أحد قادة حركة الجهاد الاسلامي، إلى المذابح اليومية في رفح وجباليا وبيت لاهيا وخان يونس وجنين وبيت لحم ونابلس. وإذا كانت الدماء والأشلاء هي التي ترسم لوحة الأوضاع في تلك المدن والمخيمات، فإن ماتشهده القدس يؤكد خطورة وكارثية سياسة "التدمير الهادىء" للبيوت والأحياء والمواقع العربية في المدينة ومحيطها. فالنداءات الأخيرة التي أطلقتها "الجبهة الاسلامية المسيحية للدفاع عن القدس والمقدسات" و "مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الاسلامية" عبّرت عن تفجر مشاعر الغضب ليس فقط في وجه مخططات التهويد الصهيونية، بل تجاه حالة الصمت المريب الذي يلف الواقع العربي والاسلامي والدولي وهو يرى ماتقوم به حكومة الاحتلال وعصابات المستعمرين.
 
   جاء اعلان بلدية القدس الصهيونية قبل بضة أيام عن الشروع في بناء أكثر من ألف وحدة سكنية داخل المستعمرات المحيطة بالمدينة، ليلقي المزيد من الأضواء على عمليات التوسع المستمرة والمتسارعة في البناء في جميع أجزاء المدينة. وقد أكد الدكتور حسن خاطر والشيخ تيسير التميمي والمطران عطا الله حنا أعضاء هيئة رئاسة الجبهة الاسلامية المسيحية في المؤتمر الصحفي الذي عقدوه قبل عشرة أيام تقريباً على خطورة الموقف. وأشاروا إلى (أن القدس تشهد ومنذ انتهاء مؤتمر أنابولس أكبر هجمة استيطانية من احتلالها عام 1967) وهو مايتنافى مع _ رهانات البعض _ على تحقيق وهم "تجميد الاستيطان" كما تراءى لهم في سراب نتائج المؤتمر العتيد. يقول الدكتور حسن خاطر الأمين العام للجبهة (كان يفترض خلال المدة التي أعقبت أنابولس تجميد الاستيطان بصورة تامة بما في ذلك مايسمى "النمو الطبيعي" للمستوطنات، والامتناع عن تقديم أية حوافز للمستوطنين واستعداد "اسرائيل" لتفكيك المستوطنات تمهيداً للدخول في المرحلة الأخيرة من المفاوضات، الا أن ماجرى ويجري على الأرض كان مناقضاً تماماً لهذه الفرضية ولكل الالتزامات والتعهدات التي قدمتها دولة الاحتلال للمشاركين في المؤتمر والمجتمع الدولي عموماً)، مشددا على أنه(خلال هذه الفترة الوجيزة تم الاعلان عن اقامة أكثر من عشرين ألف وحدة استيطانية، تقدر مساحتها الاجمالية بأكثر من اثنين مليون متر مربع، وذلك في كل من جبل أبو غنيم وجبل المكبر وجنوب القدس بالقرب من الولجة ومستوطنة جيلو ومستوطنة تل بيوت، ومستوطنة معالي أدوميم، ورأس العامود، والشيخ جراح وسلوان ووادي حلوة، وشمال القدس بالقرب من مطار قلنديا). إن هذه الهجمة المستمرة لبناء المستعمرات ترتبط بمخطط هدم المباني العربية وهو ما أكده تقرير الجبهة (ان ازدياد الاستيطان يرتبط بارتفاع وتيرة هدم المنازل العربية في المدينة، بمعدل 97 مبنى في العام الواحد ... لقد تم العام الماضي هدم وتدمير أكثر من 140 مسكناً فلسطينياً في المدينة تبلغ مساحتها 9946 متر مربع، وتتجاوز عدد غرفها 373 غرفة، إضافة الى 43 منشأة أخرى كمخازن ومزارع وغيرها). وفي هذا السياق كشفت مؤسسة الأقصيلإعمار المقدسات الاسلامية وبالصور الفوتوغرافية قيام المؤسسة الاسرائيلية بحفرنفق جديد ملاصق للجدار الغربي للمسجد الاقصي يمتد مسافة 200 متر، يبدأ من أيسرساحة البراق متجها الي داخل البلدة القديمة مارا تحت البيوت المقدسية. كما أكدتالمؤسسة أيضا من خلال رصدها المتواصل والدقيق، ان هذا النفق والحفريات الاسرائيليةتشكل خطرا كبيرا على المسجد الأقصي وتهدد عشرات بيوت اهل القدس في البلدة القديمةبالتهدم والانهيار.

 
وجاء كشف مؤسسة الأقصي بعد رصد متواصل وتوثيق لما تقوم بهالمؤسسة الاسرائيلية من حفريات في محيط المسجد الاقصي القريب، حيث أكدت المؤسسة انهذا النفق هو عبارة عن عدة انفاق متشابكة تحت الأرض، وبعضها يعتبر فراغات ارضيةلأبنية اسلامية من العهود الاسلامية المتعاقبة.
 
   لم تتوقف اجراءات العدو في التوسع عند تلك الحدود، بل تعدتها إلى وضع المخططات لبناء أكبر كنيس يهودي في العالم، لاستدرار عطف وتضامن اليهود، انسجاماً مع خطة عمل الحركة الصهيونية في استغلال المشاعر الدينية لديهم في سبيل توظيفها لخدمة المشروع الاحتلالي الاستعماري. يقول الشيخ تيسير التميمي (اننا ندين قرار سلطات الاحتلال ببناء أكبر كنيس يهودي في العالم في منطقة البراق وباب النبي محمد عليه السلام، لأن هذا المكان هو جزء لايتجزأ من المسجد الأقصى المبارك). هذا الكنيس الذي سيبنى مكان مقر الهيئة الإسلامية العليا والمدرسة التنكزية المطلة على حائط البراق. ولهذا فإن ماكشفه المخطط الحكومي لشكل مدينة القدس المحتلة، وخاصة البلدة القديمة خلال السنوات الست المقبلة، يعزز سيطرة الكيان الصهيوني عليها وتهويدها ويمنع تقسيمها أو أن تكون عاصمة "الدولة الفلسطينية" العتيدة! فالقدس التي يخططون لها هي "قدس يهودية" _ كما يقول الدكتور حسن خاطر_ لأن المخطط الصهيوني يوضح بالصور والدراسات التفصيلية مشروع "واجهة القدس" لإنهاض مكانة "الحوض التاريخي" في المدينة _الحوض المقدس بحسب المصطلحات الصهيونية المتداولة_ الممتد من باب المغاربة جنوب المدينة الى منطقة وادي الجوز شمالها، بتكلفة مالية تُقَدر بأكثر من 400 مليون دولار، بهدف تغيير شكل وملامح المدينة من خلال بناء الهيكل المزعوم.
 
   في ظل هذه التطورات المتعاقبة، تدور مماحكات لفظية علنية بين أولمرت وليفني من جهة وعباس وقريع وعريقات من جهة أخرى، تتعلق بأجندة اللقاءات _ يسميها الطرفان تضليلاً ... مفاوضات _ وهل تكون مدينة القدس في البنود الأولى أم يتم ترحيل النقاش حولها إلى المرحلة النهائية من المباحثات! إن خطورة الاستمرار في هذه اللقاءات العبثية تتوضح من خلال فتح مسار جديد للمفاوضات السرية _حسب صحيفة هآرتس_ يديره الوزير الصهيوني حاييم رامون مع رجل الأعمال محمد رشيد "خالد سلام" المعروف بصفقاته المشبوهة _ للتذكير فقط، دوره السري بالتنازلات المذلة التي لحقت بالمقاتلين المحاصرين في كنيسة المهد _ وهومادفع بـ صائب عريقات لنفي الخبر (لم يتم تخويل رشيد من قبل أية جهة رسمية لإجراء اتصالات مع "اسرائيل").
 
   أمام هذا الوضع الكارثي الذي تعاني منه مدينة القدس كما باقي الأراضي المحتلة، فإن مجابهة مليارات الدولارات المرصودة لتوسيع المستعمرات واستكمال عمليات التهويد، والمدعومة بمواقف العديد من دول العالم (أمريكا وأوربا) التي تبرر للعالم كل التغيير الحاصل على الأرض، تتطلب كما يقول الدكتور خاطر (تدخلا عربيا واسلاميا عاجلا لوقف هذه الهجمة التي فتحت أبواب التهويد على مصراعيها، لأن معركة القدس هي معركة الأمة بكاملها، فلم يعد بالامكان مواجهة التهويد المستمر بالاعتصامات والبيانات والشجب والاستنكار). وهذا ماأكده المطران عطا الله حنا (ان مكانة القدس الدينية أكبر من ان تطرح للتفاوض، وأنها مدينة عربية مقدسة ويجب ان تعاد الى اهلها كما هي ودون مساس بمكانتها ورمزيتها الدينية والوطنية).
 
 إن مدينة القدس تتعرض لعملية اغتيال مادي ومعنوي، منذ أن قرر البعض تحويلها _ كما الوطن _ إلى سلعة قابلة للتفاوض وللتنازل. إن موقفاً وطنياً موحداً يضع معركة الدفاع عن عروبة القدس في مقدمة أهدافه، أصبح ضرورة ملحة ومباشرة، من حيث تصعيد عمليات المواجهة المدنية والمسلحة مع المستعمرين،
والعمل على تحريك أوسع رأي عام شعبي، محلي واقليمي وعالمي ضاغط ، للحفاظ على المدينة المقدسة عند مليارات من البشر.