محاكمة قاتل !


 
 
 
فــاروق وادي
هل أعطى الرئيس الأميركي جورج بوش الإذن لآرييل شارون، الذي كان قد تهيّأ للجريمة، بالتخلُّص من ياسر عرفات؟!
بغض النظر عن التفاصيل والملابسات التي ساقها وزير العدل الأسبق، فريح أبو مدِّين، حول "الليلة التي تقرّر فيها إعدام ياسر عرفات" (القدس العربي 29/2/2008)، فإن ما يعنينا هنا، النتيجة التي توصّل إليها رجل القانون الفلسطيني وأول وزير عدل في فلسطين، وهي أن جورج بوش الإبن هو الذي منح قاتلاً آخر برتبة رئيس وزراء كيان قائم على استراتيجيّة المذبحة، الضوء الأخضر بإعدام ياسر عرفات.
 
لكن رواية أبو مدين، وإن كانت تقبل التصديق، فإنها تظلّ تفتقر إلى السند القانوني المُقنع، لأنها تقوم على "الإعتقاد الجازم" بدور الرئيس الأميركي في مقتل ياسر عرفات، وليس على تقديم الدلائل والبراهين وحشد القرائن الإثباتيّة. رغم أن مثل هذا الاعتقاد ينطوي في ذاته على قوّة كافية لاستقطاب ملايين البشر الذين لن يترددوا في التصديق عليه، نتيجة المعرفة المُسبقة بسجل وسلوك وأخلاقيات القاتل.
 
وإذا كانت القضيّة بحاجة إلى أكثر من مجرّد مقالة، فإن ما تقدّم به أبو مدين يبقى يُشكِّل منطلقاً لعمل قانوني مطلوب ويحتاج إلى المتابعة، عبر إعادة إحياء قضيّة إعدام ياسر عرفات. فالمسألة ليست فرديّة، وإنما قضيّة تمسّ شعباً بأكمله فقد رئيسة بقرارات وأفعال مجرمين دوليين.
 
عندما نُشرت النتائج الأوليّة للجنة تقصّي الحقائق بوفاة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، قال أبو علاء، رئيس وزراء فلسطين الأسبق، في تقديمه للتقرير، إن مجلس الوزراء الفلسطيني، في حينه، قد خلُص إلى "إبقاء هذا الملف ذو الأهميّة القصوى مفتوحاً حتى يتم التوصُّل إلى الحقيقة كاملة"، لأن متابعة هذه القضيّة تبقى من حقّ الشّعب الفلسطيني ومن حق وواجب السلطة الفلسطينيّة.
 
لا ندري حجم العمل ومستوى الإهتمام الذي بذلته الحكومات اللاحقة في متابعة المسألة. كلّ ما نعلمه أننا لم نقرأ تقريراً حكومياً يتابع القضيّة، التي لم تدّعِ لجنة تقصي الحقائق أنها قدّمت حولها أكثر من "نتائج أوّليّة". علماً بأن النتائج الأوّليّة تبقى، دائماً، بحاجة إلى ما يعززها، أو حتّى ينفيها، الأمر الذي لم يحدث أبداً.
 
ميزة مقالة أبو مدين أنها لم تكتف بإعادة تجديد طرح قضيّة يبدو أنها تذهب، على المستوى الرسمي الفلسطيني، شيئاً فشيئاً، إلى غياهب النسيان. ولكنها تكمن في أنها توجِّه أصابع الاتهام إلى من لم يجرؤ أحد من قبل على أن يشير إلى مسؤوليّته في قتل الرئيس الفلسطييني السابق، ونعني الرئيس الأميركي.
 
غير أن ما نطلبه من رجل قانون عمل وزيراً للعدل في حكومة أبو عمّار، ليس مُجرّد مقال صحفيّ يمضي كغيرة من المقالات، وإنما قيادة مشروعٍ قانونيّ جماعيّ، فلسطيني وعربي ودولي، يهدف إلى تقديم جورج بوش لمحاكمة دوليّة لمسؤوليته المُحدّدة عن مقتل ياسر عرفات، ولتطال محاكمته كلّ المتورطين في الجريمة، إسرائيلياً، وعلى كافة المستويات الأخرى، الفرديّة والجماعيّة والدوليّة.
 
مثل هذه المسألة قد تحتاج في البدء إلى مبادرة قانونيّة تُطلقها كوكبة من رجال القانون الفلسطينيين.. مبادرة تعرف نصوصها وطرقاتها ومساربها الإجرائيّة دولياً، وهي بالتأكيد تحتاج إلى وقفة جادة وكريمة من رجال الأعمال الفلسطينيين، الذين يناط إليهم واجب تمويل رفع مثل هذه القضيّة، مثلما تحتاج إلى دور إعلاميّ يتولاه الكتّاب والصحافيون. وآخر للأكاديميين، وغيرهم في كلّ قطاع من قطاعات المجتمع الفلسطيني في الوطن والشتات.
 
ربما يتخوّف البعض من خطورة ردّة الفعل اليمينيّة الأميركيّة، الآن، على مسألة تقديم رئيس الدولة الأعظم في الكون لمحاكمة يعقدها كيان لم يبلغ بعد مستوى الدولة المستقلّة. وهنا، علينا أن نشدِّد على أن من سيتولى هذه القضيّة هو الشعب الفلسطيني، الذي يمكن جمع ملايين التوقيعات من أبنائه، لتُرفع القضيّة باسمهم.
 
وإذا كان من الصّعب الآن محاكمة "الرئيس" جورج بوش الإبن على مسؤوليّة منح الضوء الأخضر لقتل الرئيس، فلتُعقد المُحاكمة بحق "المواطن" الأميركي جورج بوش، الذي لم تبق أمامه سوى بضعة شهور حتّى يفقد الهالة التي يمنحها له المكان الذي احتلّه ثماني سنوات متتالية.
 
وربما تفتح هذه المحكمة المجال لشعوب أخرى، يتحمّل جورج بوش المسؤوليّة عن إعدام رؤسائها أو تشريدهم وتدمير كياناتها. وقد تصل إلى محاكمته أميركياً لمسؤوليّته عن مقتل أربعة آلاف أميركي وجرح عشرات الآلاف خلال السنوات الخمس الماضية، وزج بلاده في حروب جلبت عليها الويلات، وأججت الكراهية ضدّ بلدهم، وخلّفت نتائج أخلاقيّة أضرّت بالولايات المتحدة..
 
تقديم جورج بوش للمحاكمة، هو الردّ الفلسطيني الوحيد على توجهات فلسطينيّة سائدة تستعير عنوان فيلم إيطاليّ قديم يقول: "إنتهى التحقيق المبدئي.. إنس الموضوع"!؟