الصهيونية والجاسوسية


تحاول القوى العظمى, صاحبة المشاريع الامبريالية, أن توظف أعضاء الأقليات الدينية والاثنية في خدمتها, ولا يشكل أعضاء الجماعات اليهودية أي استثناء للقاعدة,

فقد قام قمبيز الامبراطور الفارسي, حسبما جاء في تاريخ هيرودوت بإرسال جواسيس يهود لمصر قبل أن يقوم بغزوها ليأتوه بالمعلومات.‏

كما أدى انتشار الجماعات اليهودية في أرجاء العالم الغربي إلى قيام شبكات اتصال يهودية لا تقوم بتسهيل عملية تبادل البضائع والأموال وحسب, وإنما تقوم أيضاً بتوصيل المعلومات بسرعة.‏

وقد استفاد يهود البلاط وسط أوروبا, في القرن السابع عشر من هذه الشبكة في الحصول على المعلومات وتوصيلها إلى الحكومات التي يدينون لها بالولاء.‏

وإبان غزو نابليون لروسيا, جند بعض اليهود للتجسس لحسابه, لكن أغلبية اليهود تجسسوا عليه لحساب الحكومة القيصرية, لأن المؤسسة الدينية كانت تعتبره عدوها الأكبر.‏

وبينما نلاحظ أن النمط المتكرر هنا هو قيام قوة امبريالية ما بتوظيف جماعة يهودية بعينها, إلا أن هناك نمطاً آخر وهو محاولة توظيف اليهود ككل, أو ما يسمى (الشعب اليهودي) لخدمة مصلحة ما, كما فعل أوليفر كرومويل, حاكم انكلترا لفترة وجيزة, إذ كان يفكر في توظيف اليهود ليعملوا له كجواسيس.‏

وينتمي الصهاينة لهذا النمط الأخير, فهم يفترضون أن يهود العالم هم أعضاء في الشعب اليهودي, وأنهم ينتمون إليه, وإليه وحده, وأن عليهم أن يخدموا (المصلحة اليهودية) حتى لو تناقض ذلك مع مصلحة أوطانهم الحقيقية, فاليهودي دائم الحنين إلى صهيون (وهذا بالمناسبة هو موقف المعادين للسامية, أي لليهود واليهودية, ولذلك فهم يطالبون بطرد اليهود لأنهم يهددون الأمن القومي), وانطلاقاً من هذا التصور كان مؤسسو الحركة الصهيونية يتقاضون مع القوى العظمى (انكلترا وفرنسا) للحصول على دعمهم للمشروع الصهيوني نظير تحويل أعضاء (الشعب اليهودي) إلى عملاء. ولا يزال النمط مستمراً كما هو الحال مع بن عامي كاديش المتهم بنقل معلومات حساسة عن الصواريخ والمقاتلات الأميركية, وعن البرنامج والسلاح النووي الأميركي, وقالت مصادر صحفية إن كاديش كان مهندساً ميكانيكياً في الجيش الأميركي, كما أنه عمل في قاعدة أميركية للأبحاث والتطوير العسكري في نيوجرسي, وأكدت المصادر أن كاديش اعترف لمحققي إف ب. آي أنه تجسس من دافع إيمانه أن ما يفعله يخدم (إسرائيل) و كان كاديش بصفة عامة مخولاً للاطلاع على معلومات خاصة بنظم الصواريخ المختلفة, وكذلك المقاتلات (ف 16) التي بيعت لدول في الشرق الأوسط غير (إسرائيل) كما تشمل المعلومات تفاصيل النظم المختلفة التي ألحقت بتلك المقاتلات. وبعدما تنصلت (إسرائيل) من ممارستها التجسس ضد (أقرب حليف لها) كما زعم أرييه ميكل الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية لوكالة (فرانس برس) بالقول: إن (إسرائيل) توقفت عن كل أنشطة التجسس في الولايات المتحدة منذ 1985 وأن الأحداث تعود إلى بداية الثمانينات, بدأت الإدارة الأميركية تخفف من وقع الحدث بالقول: هذه القضية تسبب ارتباكاً آنياً لكنها لن تمس العلاقات المميزة بين إسرائيل والولايات المتحدة, وإن العلاقات بينهما تقوم على صداقة حقيقية وتطابق في القيم والمصالح, ما يقلص بالتالي الحساسية التي يثيرها (التجسس لحساب إسرائيل) كما حصل سابقاً في قضية جوناثان بولارد المحكوم عليه بالسجن المؤبد لتسليمه في الثمانينات وثائق سرية تخص وزارة البحرية إلى (إسرائيل).‏

من هذا المنظور تعمل وزارتا الدفاع والعدل للتخفيف من أهمية التجسس,وتسعيان إلى تحويله إلى (إساءة تعامل) كي يصبح وقعه أخف على الناس, ولتكون (إسرائيل) بمنأى عن الإدانة والعقوبات التي ينبغي فرضها لردعها عن خلق القرارات الدولية والتمادي في استباحة الحقوق العربية, وبوجه خاص الفلسطينية, فالإدارات الأميركية تروج باستمرار أن (إسرائيل) حليف يمكن الوثوق به والاعتماد عليه, ما يسوغ السكوت عن كثير من جرائمه, والاستمرار في تقديم الدعم له, لكن التجسس نقيض الصداقة, ويهدد أسس الثقة فإذا كانت (إسرائيل) تتجسس على الولايات المتحدة التي تكاد لا تمنع عنها شيئاً, والتي كانت تدوس على كثير من شعاراتها, فكيف يمكن تفسير استمرار ذلك الدعم غير المحدود بغير اعتبار مقولة وجود التأثير الصهيوني داخل الولايات المتحدة? عند ذاك تنقلب المسألة من دعم حليف لقائدته إلى إذعان لقوة داخلية تعطي أولوية لمصالح دولة أخرى على حساب مصالح الولايات المتحدة.‏

ومن هذا المنظور يدرك الفريق المسمى (المحافظين الجدد) أن أي انكشاف لأي عملية تجسس يؤدي إلى انكشاف حقيقة أن مواقعهم تعمل باستمرار لتكون (إسرائيل) وأهدافها في المنطقة محور الاستراتيجية الأميركية, كما تحاول فعله في العراق, وهي تسعى جاهدة لتجعل التنسيق الاستخباراتي بينهما نمطاً طاغياً حتى لو كان ما تستلمه الولايات المتحدة من (إسرائيل) في معظمه خدمة لمصالحها الذاتية في التوسع والعدوان, كما أن ما تتسلمه الاستخبارات الأميركية من خلال (التنسيق الاستراتيجي) لا يلبي نهم (إسرائيل) إلى أن تكون وحدها مصدر المعلومات ومرجعية السياسات الأميركية في المنطقة, وإن على حساب المعلومات الأدق التي توفرها دول العالم والتي من شأنها أحياناً تكذيب التزوير والتشويه الإسرائيلي للمعلومات, لذا يصبح إخراج تهمة التجسس من نصوص التحقيق الجاري حاجة سياسية, إضافة إلى أنه يوفر حصانة للفريق الليكودي المسمى ب(المحافظين الجدد) من تهمة أن دفع هذا الفريق إلى الحرب ضد العراق كان هدفاً إسرائيلياً, هدفه تفكيك المكون الاستراتيجي العربي, أكثر مما هو في صلب المصلحة الأميركية, حتى تلك التي تنطوي على محاربة الإرهاب.‏