الأداء الأمني وإنعكساته السياسية في مصر



أسامة عبدالرحيم*
عندما يبلغ الماء حلقوم السفينة ويوشك البحر ان يبتلعها  فمن المضحك ان ينسب احد منكوبيها لنفسه انه أول من اكتشف إرهاصات غرقها, غير انه قد يزعم لنفسه انه من القلة التي بح صوتها لتجنب السفينة الغرق..الا ان هدير محركات الفساد التى صمت الأذان والغباء الأمنى مجتمعين حالا دون وصول صرخته الى قُمرة القيادة التي جعلت امنها محوراً لأمن السفينة..وهذا ما أحاول الا ادعيه جاهداً في مقالى هذا..!!
بداية دعونا نعترف للأمن السياسي المصري نجاحاته المتواصلة في ردع الوعى عند مواطنيه واعتقال ما تبقى من حيوية في مفاصله، ولكن من الغبن ان ننسب كامل الغباء للمنظومة الأمنية السياسية الحالية، فقد تسلمت راية الغباء من نظم أمنية سياسية سابقة عليها بداية من القلم السياسي نهاية بالوضع الحالى، بل ان السينما المصرية ذاتها أرخت لهذا الغباء في اكثر من عمل ذاع صيته لمؤلفين وكتاب عاشوا هذا الغباء او تعايشوه حولهم بداية من الكرنك ونهاية بمحنة "إحنا بتوع الأتوبيس".
فخلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم ركزت النخبة الحاكمة على "الأمن السياسي" واهملت "الأمن الجنائي"، وراحت تلاحق الجماعات الإسلامية وقوى سياسية مصرية أخرى وتعطي هذا الملف أهمية فائقة انعكست على إهمال تدريجي لـ"لأمن الجنائي"، حتى طفت على السطح قضايا فساد ومخدرات وسرقة المال العام وغسيل اموال وسرقة بنوك، واتضح ان ثمة خلل فى المنظومة الأمنية بمصر حيث باتت تقف على قدم واحدة وترى بعين وتغمض الأخرى عمداً.
والمراقب للوضع الأمني السياسي في مصر وعملية "الإخصاء" التي قامت به الحكومة لكافة مناحي الحياة السياسية بداية من حرم الجامعة مروراً بالمصنع وانتهاءاً برجل الشارع العادي، يرى بوضوح أن ثمة مؤشرا على توجه الأجهزة الأمنية لإبداء مزيد من الاهتمام بـ"الأمن السياسي" بعد أن كان التركيز بشكل أكبر طوال السنوات الماضية على "الأمن الجنائي".
وفيما يرى الدكتور "ضياء رشوان" الخبير بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام منطقية إن الحكومة المصرية غلّبت الأمن السياسي على الجنائي، الا انه يرفض في الوقت نفسه ما يراه الكثير من المراقبين الحقوقين ان الأمن الجنائي تقلص لمصلحة السياسي، بداعى انه لا توجد مؤشرات على تزايد نفقات هذا الأمن على الآخر.
الا انه و بإستقراء الواقع السياسي المصرى نجد احجام الشباب عن المشاركة السياسية ولو في الحزب الحاكم نفسه، فمن يرى سيارة الميكروباص تقف في الساعات الأخيرة من الليل لتداهم بيت احدهم وتنزله معصوب العين الى المجهول يعتقد انه لو اشرك بالله -معاذ الله- اهون الف مرة من المشاركة في حزب معارض او غير معارض.
حتى ان من يتجرأ على نيل عضوية "حزب الحكومة" لا يكون الا بدافع المنفعة الأمنية او الإقتصادية التي يوفرها لمنتسبيه وكوادره، ما جعل الحياة السياسية في مصر يعتصرها الجفاف المطلق في احزابها ونقاباتها وتجمعاتها الطلابية والعمالية، في مقابل ذلك برزت على السطح ما يستعصى حصره من رؤوس الفساد الجنائي لم تجد منظومة أمنية جنائية بذات القوة السياسية تعاقبها، لأن "الأمن الجنائي" لم يتح له ما اتيح لشقيقه "السياسي" ليحاسب ويردع ويقمع وفي احيان كثيرة يحاسب على النوايا التي في الصدور.
ليس من المبكر ان نقول اذن انه صار كل ما يتعاطى السياسة في مصر او يعمل بها او حتى اصابه غبارها على اقصى تقدير، فى نظر الأمن السياسي مرتكب فاحشة سياسية يجب ان يستتاب منها إما عن طريق محافل التحقيق الشبيهة بمحاكم التفتيش الإسبانية، او عن طريق توفير الجو "الروحاني" للتوبة من رجس السياسة بإعتقاله مدد مختلفة لإعادة ضبط كمياء عقله، في النهاية ان تبتر كفه التي مس بها السياسة ويقطع لسانه الذي هرطق به في ندوة او مؤتمر، ويتقين ان المصطلحات الديمقراطية كتب على مصر الا تراها لا في يقظتها ولا حتى في نوبات الإغماء من التعذيب.
ثمة نقطة في غاية الأهمية وهى الملاحقات الأمنية والتي تسمى زوراً المتابعات الأمنية، فهي ليست متابعات بالمعني الحرفي للكلمة، بل انها تتحول في نهاية المطاف الى ملاحقات خانقة تسعى الى تدمير الملاحق نفسياً واقتصادياً بعد قضاء إعتقاله الغير قانوني، وهوما يجعل من سبق اعتقاله فى حالة ترقب دائمة كل ليلة لمداهمة بيته بجنود القوات الخاصة ومعهم افراد الأمن السياسي يقلبون اثاث شقته رأساً على عقب يفتشون عن اللاشئ..يزيحون اولاده من على أسرتهم ويحتجزون الزوجة في احسن الأحوال داخل غرفة النوم..ثم يصطحبونه كمجرم حرب الى مقر منطقته الأمني امام اهالى المنطقة ليتم الردع من باب "اضرب المربوط يخاف السايب".
وهناك يمكث أياماً قد تصل الى اسابيع دون اتهامه بشئ سوى بعض الأسئلة التى حفظها وحفظ الإجابة عنها عن ظهر قلب..تبدأ بسؤاله متى التزمت..متى أطلقت لحيتك..لماذا نقبت زوجتك..ما قولك في الحاكم..ما قولك في القانون..الخ، وكأنه لم يعتقل..وكانه لم يتم تعليقه وكهربته وجلده وسلخه على نغمات تلك الأسئلة..!!، ان الملائكة في القبر لا تعيد ذات الأسئلة على مسمع الميت مرتين يا سادة.!!
يبقى السؤال الأكثر الحاحاً لعقلاء منظومة الأمن المصري وشرفاء الوطن...من المسؤل عن هذه النازية الأمنية..من المسؤل عن تدمير الملاحق واسرته..من المسؤل ان فقد عمله الذي ناله بشق الأنفس بغيابه ايام متواصلة في غياهب مقرات الأمن، وتعلمون جيداً صعوبة ان يجد معتقل سابق عملاً بعد سنوات اعتقال فضلاً عن خوف اصحاب الأعمال من توظيفه رغبة منهم في تجنب تحرش الأمن السياسي بهم.
وفوق هذا يطلب منه دوام متابعة الأمن كل اسبوعين وكل شهر..وان كان من ذوي الحظ العاثر يرتب له الأمن ان يتابع في منطقته وفى نفس الوقت يتابع في محافظة اخرى زيادة في التنكيل والتحطيم النفسي والمعنوي..وتدعيماً للغباء الذي قد يخلق في نهاية المطاف من الملاحق إرهابياً من ورق، وبذلك يخلق الغباء الأمني السياسي عفريتاً يتسلى به ويصنع منه عدواً وهمياً يبرر به أزمته في بقاء قانون الطوارئ تحت اي مسمى وتلك هى القضية.