فيصل القاسم والشيخ القرضاوي.. المدرستان !


 
 
د. منصف المرزوقي
هذه المقالة هي لمحاولة فهم ما وراء هجوم الشيخ القرضاوي على فيصل القاسم والمطالبة بعقابه هو والجزيرة من أجل حصة وقعت فيها انزلاقات حسبت على صاحب البرنامج أكثر مما حسبت على صاحبتها.
أن يغضب الشيخ للمساس بمقدساتنا فأمر طبيعي وقد كان شعورنا الطاغي ...أن يريد حرية الرأي والتعبير لكن دون سلبياتها وأخطارها فهذا موقف شائع حتى في أعرق البلدان الديمقراطية .كلنا نريد الشيء دون سلبياته ...الحذاء دون اهتراء ...الاستهلاك دون الجهد ...الحريات دون الانزلاقات . ولمّا تظهر أول سلبية نبدأ بالصراخ مطالبين بإلقاء الشيء في الزبالة ناسين أننا نلقي بالرضيع وليس فقط بحمام الماء القذرالذي غسلناه فيه .
أمر شبه طبيعي أيضا أن تحافظ ذاكرتنا على الفشل والسلبيات، لا ننسى أبدا إساءة أو إهانة . لكن بأي سهولة نمحي منها النجاحات – خاصة إذا كانت نجاحات الآخرين – أو ما منحونا إياه من دعم أو من محبة . ومن عادات البشر المستحكمة ايضا ألا نرى من الخط الطويل المتعرج إلا النقطة التي نحن بحاجة إليها لبناء موقف ما ، وآنذاك لا نتردد في اعتبار النقطة هي الخط.
كل هذا معروف ومبتذل ولا يستدعي الكتابة . لكن ما حثني عليها وصف القرضاوي للقاسم بأنه جاهل، وأنا رجل من عشاق الكلمات وتستوقفه عندما يتضح أن هناك سوء استعمال لها، أو تفويض خاص لها ، أو إضفاء معنى لم يعهد من قبل.
لهذا أريد أن أتفحص معكم هذه التهمة لنعرف في ماذا يكمن جهل القاسم الذي يقابله بالضرورة علم القرضاوي بما أن علمه هذا هو الذي يسمح له بإصدار مثل هذا الحكم.
 الشيخ القرضاوي يعرض منذ سنين في برنامج الشريعة والحياة علمه الغزير في خصوص كبرى وصغرى المشاكل التي تعترض المسلمين . هذا العلم بالطبع فحوى أو مادة ، توجد في أمهات الكتب منذ قرون . قد يكون الشيخ العالم أضاف لها الكثير وهو أمر لا قدرة لي على نفيه أو إثباته، لأنني مع الأسف الشديد مختص في غير العلوم التي تبحر فيها الشيخ ومعرفتي بما يدرّس لا تختلف كثيرا ،على ما اعتقد ، عن معرفته بما أدرّس.
لكن ما يسعني قوله دون خشية مراجعة من طرف أي حكم منصف أن علم الشيخ هو بالضرورة حقائق من نوع التي يرددها الوعاظ والفقهاء منذ قرون ،سواء حصل ذلك في المساجد الريفية أومن أعلى منبر القنوات والبامج الدينية المتكاثرة هذه الأيام . كونها لم تمنع أمتنا، لا من الانحطاط الأخلاقي ولا من التخلف الفكري ولا من التوحش السياسي موضوع آخر . ما يهمنا أنها معطيات لا يرقى لها الشك يسوقها لنا الشيخ العالم بكل ما يملك من طلاقة اللسان وقوة الحجة ليعلّمنا كل ما يجب علينا معرفته من شؤون ديننا ودنيانا.
لا غرابة ألا يسأل الشيخ أبدا ونادرا ما يتساءل . كيف يسأل وهو من يعرف كل الردود ومهمته تقتصر على إنارة الجهال والتائهين لأنه خلافا لهم ليس جاهلا أو تائها وكيف يكون تائها أو حائرا وهو البوصلة التي تشير إلى اتجاه الجنة.
خاصية مهمة أخرى لحصة الشيخ : مواقف وتصرفات المتلقي أكان المحاور أو المستمع . فكل ما في هذه التصرفات توحي بالتسليم لصاحب السطوة. لا مكان هنا للمشاكسة ، للمعاكسة ، للتشكيك ، للجدل . فالمواقف مبنية على الإنصات والاستيعاب ومحاولة الفهم لأن الخطأ ليس من عجز الأستاذ عن التبليغ وإنما دوما نتيجة البلادة الفطرية التي فينا . هذا عالم السمع و الطاعة لأولياء الأمر منا الذين قادونا طوال قرون طويلة على طريق الحرية وجعلوا منا فعلا خير امة اخرجت للناس. 
والآن لنسلّط الضوء على صاحب برنامج الاتجاه المعاكس المتهم بأنه جاهل . هنا نفاجأ بتغيير الديكور تماما بل وكأننا نقلنا من تلفزيون إلى آخر يبث من كوكب خارج النظام القمعي .
أولا لا يوجد أمام الرجل ، صحافي يبلع ريقه من فرط التهيب ليسأل الشيخ القاسم بكل احترام عن رأيه في سفالة الشارع العربي أو أريحية الحكام العرب أو شرعية البرلمانات العربية أو محاربة الشرطة العربية للفساد الحكومي.
كلا نحن أمام ثلاثة اشخاص يخيل لك أنهم اصيبوا أحيانا بالهستيريا وهذا يصرخ في وجه ذاك، والقاسم يصرخ فيهما: يا جماعة ، ياجماعة، والجماعة لا تأبه بصراخه .
بداهة هنا لا وجود لمونولوج يلقي فيه من يعرف من علياء علمه بفتات معرفته للمتسول السلبي . لا خضوع هنا لسطوة ولي من أولياء الأمر. إنها الحياة بزخمها ، بصراعها ، بعنفها ، بقسوتها ، ببذائتها ، ايضا بآمالها لأن وراء المعركة الشرسة بالكلمات تسليم ضمني بأن هذا العنف بالألفاظ بديل ولومؤقت للعنف بالسكاكين والقنابل.
هنا لا مجال للمونولوج الباهت وإنما للحوار الساخن . بالطبع قوام الحوار هو السؤال الاستفزازي وهو منذ سقراط أهم وسيلة لتفتيت المفاهيم ...لتعريضها للمطرقة للتأكد من صلابتها ...لوضعها تحت نار التشكيك حتى لا نخدع مرة أخرى بخصوص الذهب المزيف الذي يفرضه علينا منذ قرون الكاهن وفقيه السلطان والقوميسار السياسي لمزيد من إحكام سيطرة أسيادهم علينا.
هل لاحظتم أن من يلقي الأسئلة هو القاسم وليس الضيف أو المستمع . الأدهى من هذا أنه لا يتوقف من بداية الحصة إلى نهايتها عن إلقائها، يمطرضيوفه بها ، يحاصرهم بها ، يضايقهم بها ، لا يقتنع لحظة بردّ مهما كان . بديهي أنه لو لم يكن جاهلا من الدرجة الخامسة لما طرح كل هذا الوابل من الأسئلة التي تنم على قلة درايته بالشؤون البشرية ونقص فاضح في مستواه الثقافي وربما حتى الذهني . كيف يمكن للرجل أن يعيننا في شيء وهو بهذا الجهل والتذبذب والتردد والحيرة؟
 كل هذا يؤكد صحة كلام الشيخ القرضاوي لأنه لو لم يكن جاهلا لكان هو الذي يردّ على الأسئلة بدل إلقائها. اليس من المعروف أن كبار العلماء من يعرفون الردود لا من يلقون الأسئلة .
كبار العلماء ؟ عن أي علماء تتحدثون ؟ الم أقل لكم أنني مهووس بدقة المصطلحات ، وأن الكلمة في العربية ملغّمة لأنها تشير إلى شيئين على طرفي نقيض.
 ثمة العلماء بالمعنى التقليدي القديم وهم علماء الدين وروافده من ميادين معرفية تدور في فلكه كما تدور الكواكب حول الشمس...أهل الحقيقة الجاهزة ، الأزلية، التي يؤدي التشكيك فيها إلى عظيم الأمورمن تكفير وقتل وتمثيل بالروح والجسد.
 ثمة العلماء بالمعنى العاصر للكلمة أي من يعنون بدراسة ظواهر الطبيعة والإنسان بصفة موضوعية دقيقة وموثقة ...أهل الحقائق الضرفية المؤقتة الخاضعة للنشوء والارتقاء والتي يؤدي التشكيك فيها بالسؤال وراء السؤال وراء السؤال أحيانا إلى جائزة نوبل .
من يقدر حق قدرها عمق الهوة الشاسعة التي تفصل بين النوع الأول والثاني ؟
والآن وقد اتضحت لنا الرؤية والفوارق كيف يمكننا البت في قضية الحال أي اتهام القرضاوي القاسم بأنه جاهل.
بديهي أن من منظور العلم على طريقة مشايخ الأزهر والزيتونة ، العالم هو القرضاوي والجاهل هو القاسم .
في هذه الحالة الكارثة في الجزيرة هي فعلا برنامج الاتجاه المعاكس ويجب على الإدارة المسارعة بمنعه نهائيا وتقديم اعتذارها للأمة العربية للشوشرة التي أحدثها طوال أكثر من عقد ، خاصة وهو متهم من قبل الكثيرين أنه ارتكب أكبر جريمة لا تغتفر: التحريض على التفكير.
 أما من منظور العلم على طريقة مشايخ ال MIT   ووكالة الناسا، فالعكس هو الصحيح .
لكن في هذه الحالة أليس مخيفا بل ومرعبا أن يكون القرضاوي قد اشاع كل هذا الكم الهائل من الجهل طوال أكثر من عقد هو الآخر...انه قد اشاع هذا الكم الهائل من الشعوذة وهو يوهم الملايين بأن هناك وصفات جاهزة تضمن لهم الدنيا والآخرة ,,, ربما قد يكون واحدا من الذين عطلوا مسيرة امة بأكملها نحو الاندماج في عالم يصنعه علم الناسا وليس علم الأزهر؟
في هذه الحالة ماذا لو طالبنا الجزيرة بدفع غرامة لكل ضحايا الشيخ ؟ لكن هل يمكن ان تفي كل أموال دولة قطر بالغرض ؟
اسئلة أطرحها على الهواء مباشرة الخ ....  
--------------
 
 
ملاحظة : كل من سيتهمني انني كتبت هذه المقالة دفاعا عن فيصل القاسم ثمنا لدعواته الماضية وربما للتي أتلهف عليها ، فإنني سأطالب الشيخ القرضاوي بفتوى قطع لسانه وتكليف اللواء رؤوف مش عارف إيه بالعملية لما يعرف عن هذا الرجل من حبه لقطع الألسن وأكلها بالفول المدمّس.