اعادة اعمار علي عباس !!!


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
ارفق لكم مقالة (اعادة اعمار علي عباس) وربما تتذكرون ان علي عباس هو الفتى ذو 12 سنة حين ضرب صاروخ امريكي بيتهم في بداية الغزو وقتل كل عائلته ودمر المنزل وفقد علي ذراعيه وكنت قد كتبت عنه مقالة في حينها بعنوان (وماذا تفعل بذراعين ياعلي) واعتبرته رمزا للعراق الجديد المعوق. وبعد خمس سنوات اكتب مرة اخرى عن علي عباس بعد ان اعادوا اعماره بنفس طريقة اعادة اعمار العراق.
 
بثينة الناصري
 

 
 
بقلم : بثينة الناصري
لعلكم ماتزالون تذكرون الفتى العراقي علي عباس الذي كان قد ولد مع اول ايام الحصار وكان له بيت وأبوان و أشقاء، وكان في البيت سيارة وكومبيوتر.. وكان علي يقضي سنوات حصاره يلعب العاب الكومبيوتر ويحلم بأن يعلمه أبوه قيادة السيارة حين يكبر.
 
 
 
"ولكن السيد بوش حين اراد ان ينزل علينا الحرية والديمقراطية، كان يرسم مستقبلا آخر للفتى علي.. ولهذا أرسل إليه لعبته المفضلة: قنبلة ذكية أحرقت البيت بكل عائلته، وتركت عليا مشبوحا بلا ذراعين وبجذع متفحم. كانت لحظة الخلاص التي وعد بها بوش العراقيين.
 
 
 
في لحظة «تغيير تاريخي» صار علي ابن عباس، حفيد الحسين الشهيد الذي وعد بوش بتحرير ملته... صليبا تنوء بحمله ضمائرنا.. وكان الجميع حاضرين في مشهد صلب علي عباس.. اليهود ويهوذا والمتفرجون.
 
 
 
ولأن عليا ظل يتأوه على الشاشات العربية وتطل عيناه العراقيتان على بعض صحف الغرب.. فقد تبرع أشقاؤنا في الجنوب باستضافته وعلاجه، وكان آخر ما سمعناه من علي قبل أن يدخل مضارب الأشقاء في الجنوب وتنقطع أخباره عنا تماما – تساؤلاته: لماذا قتل الأمريكيون جميع أهلي؟ وأين سأذهب عندما أعود إلى بغداد؟ وكيف سأقود سيارة أبي؟ وكيف العب العاب الكومبيوتر بدون أصابع؟ وهل ستزرعون لي ذراعين؟"
 
 
 
وكنت قد اجبتك يا علي وانت تهوم بين اليقظة والاغماء : وماذا تفعل بذراعين ياعلي؟ * وشرحت لك كيف كان السيد بوش رحيما بك :
 
"ان ما حدث لك شيء عظيم ورائع اسمه «حرية وديمقراطية». عليك أن تفخر أن السيد بوش رئيس اكبر دولة في العالم قد اختارك أنت دون سواك يا علي.. ليجعل منك أيقونة القرن الأمريكي الجديد. إلى كائن بدون ذراعين.. بجسد محترق.. ورأس كبيرة. أنت رمز العراق الحر..
 
لقد كان السيد بوش شديد الرحمة بك.. ينبغي أن تعترف بهذا. فقد وجد أباك يضيق عليك الخناق أحيانا.. فخلصك منه.. ووجد أمك تفرط في حمايتك دائما فخلصك منها.. ووجد أخاك الصغير ينازعك اللعب ويعبث بدفاترك.. فخلصك منه.. ووجد أن بيتك عتيق الطراز لا يناسب العهد الجديد.. فخلصك منه
 
ها أنت أخيرا.. مطلق الحرية.. فاقد الذاكرة.. لتبدأ حياة جديدة. لقد منحتك الحرية أسرة خيرا من أسرتك البائدة: عندك الآن العم جورج والعم ديك والجد دونالد والخالة كونداليزا والخال كولين.. وهم أناس مرحون وطيبون ومتحضرون.. ولهذا فقد تعهدوا أن يمنحوك حرية اختيار أي رصيف من أرصفة بغداد لتقيم فيه.. لتشم هواء الحرية الطلق.
 
 
 
واعود اليك ياعلي بعد خمس سنوات.. فقد تتبعت آثارك – في خضم تعمية اعلامية - حتى وجدتك وعرفت ماجرى معك في هذه السنوات الماضيات، والحمد لله ان قاتليك قد صدقوا في وعود رفاهيتك واعادة اعمارك بما لم يخطر على البال. ولنعد لنلتقط خيط الحكاية منذ ان اختفت اخبارك في مضارب اشقائنا في محمية الكويت.
 
 
 
ما أن اخذوك للكويت حتى بدأوا يجمعون لك تبرعات المحسنين، لاخفاء جريمة احتراقك، وما ان تم الترقيع وعوفيت، حتى هرول المحسنون الى تحويلك الى اعلان دعائي متحرك ارخص كثيرا من اعلانات التلفزيون. انهالت عليك طلبات ارتداء قمصان شركات المحمول. وتكتكت كاميرات المحسنين وهي تصورك، لأن مثل هذا الاعلان كما تعرف يا علي، يلفت فضول الجماهير فأي هاتف معجز هذا الذي سيمكّن الفتى علي الذي فقد امه واباه واخاه و13 فردا من عائلته كما فقد بيته، من التواصل السريع مع الاحبة الذين غابوا الى الابد؟ ومع منزله الذي اجتث من جذوره، واي هاتف معجز هذا الذي لايحتاج الفتى علي معه الى ذراعين لحمله او اصابع للنقر على ارقامه؟! فسبحان جورج بوش الذي خلصك من كل شيء ولكنه سخّر لك المحمول لقضاء حوائجك في فضاء الحرية الجديد.
 
 
 
أمامي صورك مرتديا قمصانا اعلانية حمراء وزرقاء وبيضاء، وصورتك مع رئيس وزراء محمية الكويت، واضعا يده الحانية القانية بدماء اهلك على المكان الذي كانت توجد فيه ذراعاك اللتان لم تعد في حاجة اليهما، وماحاجتك اليهما؟ طالما ان عمك بوش لديه ذراعان وعمك بلير خرج ايضا بذراعين وصاحب المحمية يحتفظ بذراعيه.
 
 
 
ثم تلقفك اعمامك الانجليز، وأقاموا لك اكثر من موقع على الانترنيت (لم يتم تحديثها منذ خمس سنوات) لجمع التبرعات لك من اجل صناعة اطراف صناعية (غالية الثمن) كما لم ينس مراسل التلغراف ان يشير. وانك تعيش الان في كنزنغتون في بيت خصص لك من احسان المحسنين وانك وضعت تحت رعاية وتوجيه مدير مدرسة خاصة اسمه تيم هوبز وهو الذي يتولى كما يبدو عملية نقلك من البداوة الى الحضارة وهو الذي يغسل لك دماغك وهو الذي يستلم التبرعات عنك حيث يوجه المحسنين الى عنوان مدرسته وليس المنزل الخيري الذي تعيش فيه مع عمك الاصلي العراقي. وانه حتى في المقابلة التي اجراها معك مراسل التلغراف في الذكرى الثالثة لمصيبتك عام 2006، كان اللقاء في مكتب هوبز هذا الذي كان يتدخل فيما تجيب ومالاتجيب عنه، فحين صيغت الاسئلة بحيث تستدعي اجابة تشتم فيها بلدك والعراقيين والمسلمين اتاح لك كل الوقت للاجابة وحين اردت ان تبدي كرهك لجورج بوش باعتباره قاتل امك وابيك واخيك، قاطعك هوبز قائلا " ربما لا تحب الحديث في هذا الموضوع. اذا تعبت من الاجابة على الاسئلة فليس عليك ان تجيب".
 
 
 
وحين يسأل المراسل ناظر المدرسة جوناثان وهو شقيق مستر هوبز اذا كان قد لاحظ ان علي يعاني من مشاكل نفسية، يجيب:
 
 
 
"قبل سنة، زرته في منزله. عرض عمه فيلم فيديو فيه كل الاخبار عن اصابة علي وعلاجه وصور كل عائلته الذين قتلوا وكان يتفرج على كل ذلك مبتسما. لقد تعجبت من انه لا يظهر اية علامات على الصدمة او الحزن على عائلته.لا توجد اية علامات ظاهرة للحزن".
 
 
 
يلتقط الحديث مستر هوبز "في رأيي ان هذا السلوك لا يتطابق مع ثقافة الشرق الاوسط حيث نرى الكثير من العويل والصراخ بعد هجمات القنابل هناك "(!!) يبدو ان علي تعود هنا على السلوك المتماسك. ولم اجد اية حاجة لعرضه على طبيب مختص. اذا كان يشكو من شيء فهو يشكو من الملل. ".
 
 
 
ولكن، يستدرك مدير المدرسة، لا تتنفسوا الصعداء وتنسوا التبرعات لأن علي مازال يحتاج الى استمرار التعليم والعلاج طوال حياته، ارسلوا التبرعات الى (عناية مستر هوبز مدرسة هول في ومبلدون، 17 شارع داونز، الخ).
 
 
 
علي يعيش في رفاهية وسعادة لا ينغص عليه فيهما الا (الملل)، فهو يظهر في كل الصور التي التقطت له خلال مسيرته من احضان القتلة في الكويت الى بريطانيا، مبتسما، سعيدا بكل ما جرى له.
 
 
 
مبتسما وهو يحول جذعه المبتور الى شاشة دعاية لشركات المحمول.
 
مبتسما وهو يرتدي قبعة رعاة البقر من تكساس بلد عمه بوش
 
مبتسما وهو يرتدي خوذة الشرطة البريطانية في بلد عمه بلير
 
مبتسما وهو يجلس في غرفة المستر هوبز.
 
 
 
ابتسم حتى تطلع الصورة حلوة. ويرتاح الناس لأن كل شيء على مايرام وانه ليس في الامكان احسن مما كان. وان اعادة اعمار علي عباس، مثل العراق، قد تمت بنجاح منقطع النظير.
 
 
 
ابتسم وانت تركب دراجة المعوقين ثلاثية العجلات "استمتع بركوبها. تعطيني نوعا من الاستقلال".
 
 
 
نعم يا علي.. هذا هو نوع الحرية التي وعدك بها بوش.
 
 
 
ويشرح لنا علي "استخدم بدال دراجتي بقدمي واقودها بكتفي. لا استطيع ان ارتدي ذراعي حين اركب الدراجة"
 
 
 
يقاطعه هوبز قائلا "تشاجر علي مع احد المارة مؤخرا. كان يركب دراجته فوق الرصيف. الشيء الذي يجب ان تفعله يا علي في هذه الحالة هو ان تقول آسف وليس ان تدخل في مشاجرة."
 
 
 
نعم يا علي..استمع الى راعيك هوبز. كان يجب ان تقول "آسف". هذا مايقوله العراقي بعد اعادة اعماره.
 
 
 
تقول : آسف.. لأن بيتك كان في طريق صاروخ العم بوش
 
تقول : آسف.. لأن امك الحامل وأبيك واخيك واختك و 13 آخرين من اهلك كانوا نائمين حين هبط الصاروخ ولم يهربوا فزعين، فأحرجوا عمك بوش وعمك بلير.
 
تقول : آسف.. لأنك لم تمت وتنهي الحكاية. وبقيت شوكة في الضمير. شاهدا وشهيدا.
 
 
 
ماذا يقول الجنتلمان يا علي؟ ليس "آسف" فقط وانما تعلم كلمة اخرى "من فضلك".
 
 
 
تقول : من فضلك، وانت تطلب هامسا من صديق بجانبك اثناء المقابلة الصحفية " اخلع لي نظارتي ".
 
 
 
تقول : من فضلك فرّش لي اسناني
 
تقول: من فضلك اغسل لي وجهي
 
تقول : من فضلك ساعدني على دخول المرحاض
 
تقول : من فضلك، امسح لي دموعي.
 
 
 
ماذا تفعل بذراعيك، اذاً، ياعلي؟
 
 
 
"استطيع ان احركها حركة محدودة. الكف يمكن ان يغلق ويفتح. المرفق يمكن تحريكه في ثلاثة اوضاع. وحزام على الصدر يحرك المعصم.. لكني أكل وأرسم وأنقر على الكومبيوتر وألعب الكرة وأحرك الدراجة بأصابع قدميّ "
 
 
 
تقرير مراسل التلغراف "شاهدت علي وهو يلعب كرة قدم في فناء المدرسة بينما تتأرجح ذراعاه الصناعيتان الى جانبيه وبالنسبة له اسهل عليه ان يلعب بدونهما ولكنه يشعر بالاحراج اذا خلعهما وسط بقية الطلاب"
 
 
 
أين الذراعان البايونك السوبر التي نراها في افلام العم سام؟
 
 
 
أين وعد السيد بوش؟ لقد وعدك ببيت افضل من بيتك الذي مسحه من الوجود، وعائلة افضل من عائلتك التي مسحها من الوجود، وتاريخ افضل من تاريخك الذي مسحه من رأسك، وجسد افضل من الجسد الذي جبلك عليه الله، وعراق افضل من عراقك؟ وعيشة كريمة افضل مما كنت تعيش؟
 
 
 
لماذا، اذاً، ياعلي،أراك مجتث الجذور، يتيما، لاجئا، في بلاد غريبة، تعيش على صدقات المعلنين المحسنين التي لم توفر لك الا ذراعين لاتستطيع معها حتى ان تمسح دموعك؟ في حين وفرت لهم ملايين الدولارات وهم يسربلون عليك قمصانهم الدعائية، ويجني السياسيون اصواتا انتخابية جديدة وهم ويقفون الى جانبك يلقطون صورهم الباسمة، فخورين بإعادة اعمارك، مصرين على ان يصافحوا يدك الصناعية التي صممت على خدمة اهدافهم وليس اهدافك. فهي تنفتح لتصافح القتلة ولكن ليس لامساك قلم تكتب به او ريشة ترسم بها او ملعقة تأكل بها.
 
 
 
تصور يا علي، اني – قبل خمس سنوات - كتبت بحسن نية :
 
"لانقلق كثيرا لأن أبناء عمومتنا في الجنوب سوف يتكفلون بتركيب ذراعين جديدتين اكثر حضارة وتمدنا.. خطافين لامعين من معدن لا يصدأ.. ينتهي الخطاف اليمين بكلاب معقوف يمكن غرسه بسهولة في ساندويتش ماكدونالد، والخطاف الأيسر ينتهي بحلقة مقفلة تسمح بالقبض على زجاجة الكوكاكولا."
 
 
 
ولكن كما يبدو ان الذراعين السوبر اللتين حظيت بهما بعد خمس سنوات من اعادة اعمارك، لا تسمحان لك بامساك شيء غير اياديهم، وهم يقودونك الى المصير الذي رسموه لك.
 
 
 
ولكن اذا كانوا لم يركبوا لك ذراعا بأصابع تسمح لك ان تفعل بها ماتشاء، فقد بلغني انك استخدمت عبقرية اصابع قدميك التي خلقها الله لك من طين العراق، وانك بحثت في (جوجل ايرث) عن مكان بيتك الذي كان.
 
 
 
"وجدت بقعة بيضاء. كان لدينا خراف ودجاج".
 
وربما ابتسمت وانت تقول ذلك.. تلك الابتسامة التي ارتسمت على وجهك وانت تتفرج على صور امك وابيك واختك واخيك، ولم يفهمها مستر هوبز ومن على شاكلته، ولكننا، اهلك العراقيون، نعرف الشجن الذي يستدعي ابتسامة، ونستدعي الحنين لحضن الام بابتسامة، نعرف الكبرياء التي تغلفها – وسط الغرباء - ابتسامة، نعرف الحزن الذي نخفيه بابتسامة، اذا ما فقدنا الاصابع، ولم يكن معنا من لا نستحي ان نسأله "من فضلك امسح لي دموعي".