فتحـت الجلســــــــــــــــــــــــة !!!

الطاهر العبيدي/  صحفي وكاتب تونسي مقيم بباريس
 القضية رقم :  واحد على عدّة آلاف / من الذين عذّبوا وسجنوا، وشرّدوا وهجّروا من الوطن، على غير وجه حق، طبقا لقوانين الاستئصال والإقصاء، والتعسّف والمنع والفصل...
الشاهد على بعض تواريخ المأساة والكسر
عبد الناصر نايت ليمان، رئيس جمعيّة ضحايا التعذيب بتونس ومقرّها جنيف، لاجئ سياسي بسويسرا منذ 1993، أصيل مدينة "جندوبة" الواقعة بالشمال الغربي من الجمهورية التونسية.
السن : 48 سنة - متزوج من السيدة ليلى سليمي- أب لأربع أبناء:
- طه يسين 14 سنة ونصف- إلياس 13 سنة - عبيدة 9 سنوات - تقوى 7 سنوات
 المهنة: كادح
الوظيفة: مواطن
 
 
 تكلم يا عبد الناصر، وقل كما قلت أثناء الاستجواب:
" كانت بلادي حقولا من الأقحوان - وأنهار ود وبساتين حبّ-  وكانت تحبّ الجلوس مع الكادحين-
وتحفظ أسماء كلّ الرجال- وأسماء كلّ النساء- وتحكي الأقاصيص حتى ينام الصغار- لقد كان بيتي بذاك المكان- وكانت بلادي بذاك المكان- وكنت أعيش بأمان..."
 تكلم يا عبد الناصر، وقل كما قلت واعترفت في ملفات التحقيق:
" أمام المدينة مات الربيع- وذابت رموش الصبايا- ونامت عيون المطر- فلا تحك بعد هذا الصقيع- أساطير شعب جريح- ينتظر فصل الربيع- وينتظر هبوب المطر... "
 تكلم يا عبد الناصر " وقل: كيف كانت الحكاية؟ فنحن الذين اخترعنا البداية، وأنت ومثلك سوف ترسمون خط النهاية..." 
 تكلم يا عبد الناصر وانتبه لقواعد الشكل والإعراب
" فبين المهابة والمهانة موضع نقطة، فاحذر عند الكتابة والكلام مواضع النقط" 
سيدي القاضي سادتي المستشارين، أيها السياسيون أيها الإعلاميون، أيها الحقوقيون أيها النخب والمثقفون، أيها المهتمون بشؤون بلادي، أيها السادة
والسيدات...
اسمي عبد الناصر نايت ليمان، مواطن ككل المواطنين الطيبين البسطاء، مواطن ككل المواطنين الكادحين في زمن القهر وزمن الغدر، وزمن البؤس وزمن الرفس، وزمن السحق وزمن الشقاء، مواطن ككل المواطنين الشرفاء، الذين يحلمون بالعدل، بالمساواة بالكرامة بالعزّة والكبرياء، مواطن ككل المواطنين الأوفياء، أحب بلدي، أحب فيه الليالي القمرية وليالي الحصاد، أحب بلدي، أحب فيه حكايات العجائز وحلقات الشيوخ الكبار، والسمر الليلي وتلك المروج الطليقة، طلاقة الصبية والأطفال وهم يطاردون الحمام والفراش، أعشق بلدي ذاك الذي أحس فيه بدفء ليالي الشتاء، وليالي الرعد والبرق والمطر والسحاب، أحبّ بلدي أحب فيه نسائم الصيف، وروائح القهوة وهي تطبخ بانفعال بسيط فوق جمر خجول، على إيقاع ذبذبات الصراصير، وتأوهات الضفادع على ضفاف الغدير، أحبّ بلدي، أحبّ فيه فصل الصيف، الذي تتناثر فيه باعة الهندي والتين والعنب والمشمش على حافة الطرقات، تحلم باقتناص الرغيف، مثلما يحلم الحر بميلاد الوطن..
مواطن أنا، أحب بلدي، أحب فيه صفاء القرويين وطهر الفلاحين، وأسواق البهائم والأغنام، وولولة الدجاج وصياح الديكة وهي تؤذن لميلاد فجر جديد... أحبّ بلدي، أحب فيه المزارع والحقول والبراري والمراعي العذراء، ورائحة الصنوبر والإكليل والزعتر والعرعار، ونسائم الياسمين وسفوح الجبال التي تتسلقها بيوت الطين وخيام الرعاة وأشباه المزارعين، أحبّ بلدي، أحب فيه دغدغة النسائم وهي تنعش الأجساد المتصببة تعبا وحرارة، بين قبضة شمس منفعلة متشنّجة متوثبة متوترة منفعلة صفراء الوجه، تنهال سياطا على الرؤوس والأبدان..
مواطن أحب بلدي، أحب فيه دفء الأهالي والقبيلة، ودفء بيوت الطين والأحجار، وروائح الخبز المتصاعدة من الأفران، وتلك الليالي القمرية التي يكون فيها القمر صاحيا، وأخرى ضوئه نصف نائم خجول..
أحب بلدي، أحب فيه رذاذ المطر وساعة الغروب وثغاء الخرفان وقت السحر، أحب بلدي، أحب فيه توادد الأهل والجيران في المناسبات والأعياد، أحب فيه صوت المآذن، وحجرجة أوراق الأشجار، وهي تتأرجح على ضفاف الرصيف، أحبّ أشجار اللوز وهي تتمطط بعد سبات شتاء عميق، أحب بلدي، أحب فيه مواويل الفلاحين وزغردة النسوة، في غابات الزيتون وواحات النخيل عند جني المحصول، أحب فيه الزرع والبحر والتراب والسنابل، وهي تتماوج احتفاء بقدوم الربيع، مواطن أنا، أحب بلدي، أحب فيه الأسواق الشعبية، التي تمتزج فيها أصوات الباعة بدخان الأكلات الشعبية، السريعة، وتختلط فيها الغلال بالخضار، والملابس بالأواني، والتوابل بالأقمشة، فتشكل لوحات طبيعية تلقائية من البساطة والجمال، أحب بلدي، أحب فيه دروس الابتدائية، والأناشيد الطفولية، وشيوخ الحي والقرية، وعودة التلاميذ الصغار من المدارس، ولحظات انتظار آذان المغرب في رمضان، والبائعين المتجولين وأشياء كثيرة، وكل تلك الأيام البسيطة الجميلة، تلك هي بعض المشاهد من بلدي التي هي جزء من ذاكرتي، من عمري من جسدي، من وجعي من حلمي، من ألمي ومن فرحي،  مطبوعة في ذهني في ترحالي وسفري...
أيها السادة والسيدات أيها السياسيون أيها الحقوقيون أيها الإعلاميون أيها النخب والمثقفون...
مواطن كنت ولا زلت، لا أعرف ما تعرفون، ولا أنا عارف ما عرفتم، ولا أنتم تعرفون ما أعرف، كلّ ما أعرف، أن الدولة إذا احتاجتني تناديني بأفضل الأسماء، وتتغنّى بكرمي بشرفي، بوفائي بوعيي، عند المصائب وعند الكوارث، وعند جمع الضرائب، وتمدحني كثيرا أثناء مواعيد الانتخاب، ومواعيد الاستفتاء عبر الإذاعة والتلفزة وعلى صفحات كل الجرائد،  كل ما أعرف أن الدولة تعقد باسمي صفقات التوريد والتصدير، وكل الاتفاقيات مع الأجانب، وتلهث باسمي في الاحتفالات في المناسبات وعند الفيضانات والمراسم، وتتغزّل بشهامتي بكرمي  عند المصائب، تستنفرني وتستنجد بي عند المكايد، تلقبني بأجمل النعوت وتناديني بأرقى الأسماء: أيها المواطن الكريم -أيها المواطن العزيز- أيها المواطن الشريف- والعديد من الألقاب، التي تبعث في العزّة والشعور الصارخ بالانتماء..
أيها السادة والسيدات، أيها السياسيون، أيها الإعلاميون، أيها الحقوقيون، أيها الناشطون، أيها النخب والمثقفون...
أنا مواطن لا أفقه في السياسة، ولا في الكياسة، ولا في التخاسة، ولا في السلاسة كما تفقهون، فكل ما أفقه أن الدولة من أجل حفظ كرامتي، من أجل عزّتي، من أجل المواطنة، صاغت البنود والدستور، وأقسمت على المصحف الشريف أن لا أحد فوق القانون، وأن للمواطن حق الشغل وحق الملبس، وحق السفر وحق التجوّل، وحق الأكل وحق السكن، وحق التعلم وحق التنظم وحق التجمهر، وحق الانتخاب وحق الرأي والتعبير...
أيها السادة والسيدات، أنا مواطن "مزمّر" لا أعرف ألاعيب السياسة، ولا فقه المناورات ولا لغة الحسابات، ولا حديث الكواليس ولا خطب الصالونات، ولا ما تسمّونه انتم فقه المصالح، وفقه التحالف وفقه التخالف وفقه المجالس، فقط أعرف أن الدولة تحبني كما أحبها، وتوفر لي العدل والأمن والطعام، كما بدوري أحترم الواجب أحترم القانون، أحترم الموانع وإشارات المرور، أحترم الإدارة، أحترم كل فصول الدستور، أحترم المعلم والشرطي والموظف، وعمدة الحي والبواب والمسؤول، أحترم الأمن والنظام، واساهم بجهدي بعرقي، بسواعدي بتعبي، في البناء والتعمير، وأدافع عن بلدي عن علمي، عن أرضي عن عرضي، بالجسد والروح والدماء، ذلك لأني أومن أن من منحتهم صوتي، وبايعتهم للحكم، وفوضتهم للتحدث باسمي، ليسوا فريقا آت من عوالم الفضاء، ولا أناس عنّي غرباء، بل هم أبناء وطني، أبناء واقعي أبناء أهلي، أبناء أرضي أبناء وجعي، أبناء لغتي أبناء حضارتي تاريخا وانتماء...
أيها السادة والسيدات...
مواطن أنا، فرغم النقائص ورغم بعض المسائل، كنت أساهم في بناء بلدي، عبر الكدح عبر الجهد وعبر السواعد، وحتى لا أكون عبئا على الدولة، حملت حقيبتي وعيون بلدي، وأمال وأحلام وطني، وكثيرا من ذكريات الطفولة والصبا، ودفاتر أيام موطني، واتجهت إلى إيطاليا، وهناك تحصلت على الإقامة العادية، كانت لسعات الغربة أيها السادة كالسياط على كياني وجسدي، كانت الشهور ثقيلة، وفراق الأهل والأحبة والأصدقاء والبلد موجعة أليمة، وغربة كالحة ، يابسة حامضة مرّة حزينة، كنت بيني وبين نفسي أقول: من أجل عين ألف عين تكرم، ومن أجلك يا وطني الحبيب يهون العمر والجسد، من أجلك يا وطني تؤلمنا الغربة يمتصنا الجرح وينبت الأمل...
أيها السادة والسيدات ويا أولي الألباب...
ظللت هناك في إيطاليا، أحفر بسواعدي بأظافري بأصابعي، نافذة صغيرة أطل منها على ذاك الوطن، أشتغل كل يوم دون انقطاع، دون راحة ودون عطل، يلسعني الصقيع الغربي، ينهشني التعب اليومي... تحملت الفراق والشقاء، والأعمال المضنية ، وزحمة الشارع، وأوجاع الغربة وغياب الأهل والأبناء، ومعاناة اللغة والأكل والسكن، ، وظللت استعجل الشهور والأيام، أعدّ الساعات والدقائق واللحظات، لأعود وأحتضن التراب والوطن، حتى كان تاريخ
جوان 1990 حين شاركت في مظاهرة سلمية في إيطاليا، حول أوضاع المحاكمات السياسية التي أجريت بتونس آن ذاك، فاعتقلت من طرف البوليس الإيطالي، الذي سلمني تواطؤا إلى البوليس التونسي، ومن هناك تمّ ترحيلي إلى وزارة الداخلية التونسية، وما أدراك ما وزارة الداخلية..
هناك أيها السادة نزلت ضيفا لا ككل الضيوف، هناك أيها السادة لم أعد ذاك المواطن الكريم، لم أعد ذاك المواطن العزيز، لم أعد ذاك المواطن الشريف...
 بل صاروا ينادوني بأقذر الأسماء، وأبشع الألقاب، وانهالت عليّ السياط، وحصص التعذيب والمهانة والهوان، وتداول عليّ الأعوان بالضرب والرفس، والجلد وكل أنواع القسوة والعذاب، صرخت طويلا فلا أحد منهم رحمني، حتى أغمي عليّ عديد المرات، كسرت رقبتي، كسر ظهري، وأدميت رجلاي، وانتفخت أصابع قدماي، ورغم آلام الجسد أيها السادة، رغم الجراحات الفظيعة في بدني، كانت جروح النفس عميقة، بعمق أعوام الغفلة، التي كانت فيها ثقتي بالدولة بلا حدود، وصفعتني أيها السادة العديد من الأسئلة الهوجاء؟؟؟
أهذه هي الدولة يا عبد الناصر؟ أهذا مصيرك يا عبد الناصر، يا هذا المواطن الذي تبرّعت سنين طويلة دون تحفظ، بصوتك بحلمك بدمك لصناديق الاقتراع، وصناديق الانتخاب، وصناديق الاستفتاء، وصناديق التضامن الاجتماعي، وصناديق التبرّع بالدماء، أهذا حالك يا عبد الناصر؟ يا أيها الذي كنت تحدث أطفالك وتقول لهم، أننا بلد الحرية بلد المدنية بلد الرأي والقانون! أهذا أنت يا عبد الناصر، يا أيها المواطن البسيط الذي لا تزاحم في الحكم أحدا، وليس لك من طموح سوى العيش بستر وشرف وأمان! أهذه هي وزارة الداخلية يا عبد الناصر! الداخلية التي تشرف على إعلان نتائج الانتخابات، وتطبيق القوانين التي تمنع الظلم والتجاوزات! أهذه هي الداخلية رمز العدل والمواطنة وكل تلك الأقاويل البيضاء!   
هنا أيها السادة، لا شيء يسمع غير أصوات المستغيثين، وأنين الجرحى والمعذبين، لا شيء يسمع غير طلقات الصفعات واللكمات والعويل، وآهات منبعثة من كهوف الضلوع، وأصوات لا تنقطع عن الصراخ والصرير، وأعوان قساة غلاظ شداد لا رحمة في قلوبهم ولا إحساس ولا شعور، وزنزانات تشبه المقابر تشبه الجحور، واعتداء على الأجساد على المقدسات، على الأعراض وعلى بنود الدستور، ومحاضر مزوّرة، وتهم مصطنعة، وتقارير مفتعلة، واعترافات تحت السياط مدوّنة، ومعتقلون مكدّسون كما تكدّس الأبقار والحمير...
ظللت هناك أيها السادة أربعين يوما في عنابر الجحيم، اقتات الشتم والضرب، وكل أنواع الإهانة والإذلال والتدمير، أستنشق روائح اللحم المشوي تحت سياط العذاب والسباب وروائح البكاء والأنين... 
أيها السادة أيها الناس 
لست الوحيد ولا زعيم ضحايا الهوان والتعذيب، ولا الوحيد الذي ناله هذا المصير، فقد رأيت العشرات ممن شوّهت أجسادهم، وأصيبوا بعاهات مزمنة واحترقوا بنار هذا السعير، وسمعت وشاهدت أشياء وممارسات يندى لها الجبين، ومئات أخرى وآلاف من الضحايا، الذين يعانون رواسب ومخلفات سنين القهر، وسنين الحبس وسنين المراقبة، وسنين التجويع والتطويع والتركيع، وكل أيام وأعوام السجن والمعتقلات، والزنزانات الحزينة، وكل أولئك الشباب والطاقات والكفاءات، الذين حولتهم السجون والمعتقلات، ومحلات وزارة الداخلية إلى أشباه بشر... 
 
سكوت، سكوت:
بعد المعاينة والمكاشفة  والتأكد من صحة التقارير والأقوال، بعد المداولات، بعد المشاورات، ودون التشويش على ما يسمى بالمصالحات، واحترام آراء من يسعون طيبة، أو تمنيا أو توهما أو تفاؤلا لفتح القنوات من أجل إيقاف هذا النزيف وهذه المأساة، قررت المحكمة إعادة فتح الملفات، ومحاسبة وتتبع الجناة وكل الجلادين المتورطين في هذه المأساة، حتى لا تتكرر مستقبلا مثل هذه البشاعات والتجاوزات... 
رفعت الجلسة...
---------------------------------------
للتذكيــــــر
* جمعية ضحايا التعذيب بتونس ومقرها جينيف، ورئيسها عبد الناصر نايت ليمان، كانت قد قدمت شكوى جنائيّة لدى المحاكم السويسرية، ضدّ السيد عبد الله القلال وزير الدّاخلية التونسي الأسبق، في شهر فبراير من سنة 2001.
* قامتالجمعيّة بإيداع ملف قضيّة ثانية لدى المحكمة الابتدائيّة بجنيف سويسرا، ضدّالمدّعى عليه: عبد الله القلال وزير داخلية سابق، وقد عيّنت القضّية ليوم الخميس 9جوان 2005، وقع استدعاء المدّعى عليه المذكور آنفا للمثول أمامالمحكمة.
* لم يحضرجلسة يوم الخميس 9 جوان 2005 المطلوب وزير الداخلية السابق،  والحكومة التونسية ولامن ينويهما عدليا ولا ممثل عن السفارة التونسية بسويسرا، وحضر المدعي عبد الناصرنايت ليمان، ومحاميه السيد ّ" فرانسوا مومبري"، الذي قدم ملفا موثقا بالحجج والأدلة المادية، حول تعرض موكله للتعذيب بوزارة الداخلية التونسية، مما سبب له آثارا بدنيةونفسية، وقد دوّنت قاضية الجلسة غياب الطرف المدعى عليه.
* حسب محاميالمتضرر السيد " فرانسوا مومبري " فإن غياب الطرف الآخر، يدل على تهرب من مواجهةالحقائق، ويعزز موقف موكله.
ما تزالالقضية تثير اهتماما إعلاميا وتعاطفا حقوقيا من طرف كثيرا من المنظمات والجمعياتوالعديد من الشخصيات السياسية ونشطاء المجتمع المدني بسويسرا وخارجها.