القذّافي نعى التجربة الجماهيرية ووضع المسؤولية على ظهر ...الجماهير!

آخر ما استقرّ عليه حتى الآن : الناس تقول ما تريد .. والقائد يفعل ما يريد
                                                                                                                                                         
 نبيل أبوجعفر*
لا يُوجَّه النقد عادة إلاّ إلى الذين يُرجى الأمل منهم – أو يتوقّع على الأقل – أما الذين ربطوا مواقفهم ومصيرهم تاريخياً مع أعداء أمتهم فلا أمل فيهم على الإطلاق .
 
من هذا المنطلق نلقي هذه النظرة على آخر المستجدات الليبية بإيجابياتها القليلة وسلبياتها الكثيرة ، ونرى من الضروري بداية أن نسجّل بتقدير عال – هذه المرة ـ تثمين كل عربي مهما اختلف مع ليبيا الرسمية، للموقف الإيجابي الذي اتخذته في مجلس الأمن الدولي ، بمنعها صدور أي إدانة ضد عملية القدس التي استهدفت اسرائيليين في مدرسة دينية، إذا لم يسبقها – في حالة الإصرار على ذلك – إصدار إدانة صريحة للمجازر التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضد أهلنا في قطاع غزة وجلّهم من المدنيين والأطفال.
 
هذا الموقف يُسجّّل في موازين تجربة العقيد القذافي الإيجابية، مهما بلغ حجم موازينها السلبية. نقول يُسجَّل له مع أنه واجب وطني وقومي، لأننا سمعنا ورأينا أصواتاً ومواقف عربية رسمية سارعت إلى إدانة هذه العماية من باب التملّق للصهاينة والأميركان ، مع أن مواقف بعض اليهود في أرجاء العالم كانت نقيض ذلك، ومنهم من تظاهر حتى بعد تنفيذ عملية القدس في شوارع أوروبا – كما حصل في العاصمة الفرنسية يوم السبت 8 آذار الجاري – تنديداً بجرائم اسرائيل في غزة. كما يُسجّل للقذافي أيضاً رفضه الإشتراك في مؤتمر البرلمانيين العرب الذي عقد بأربيل نظراً لوقوع العراق تحت الاحتلال.
 
نعود للمستجّد الطازج في المسلسل الجماهيري:
 
 
 
غضب أم مزاج أم... ماذا؟
 
في عزّ إنشغال الناس بما يجري على أرض غزة، وبما يُمارس من ابتزاز رسمي غير مسبوق ضد سورية في قضية انعقاد القمة، فضلاً عن متابعة فصول ملهاة الأفرقاء في لبنان ، طَلَعَ علينا العقيد معمّر القذافي بأعجوبة عجائبه كلها التي لم تتوقّف منذ انطلاق ثورة الفاتح من سبتمبر في العام 1969 وحتى اليوم، وكان من الطبيعي أن لا نُلفت انتباه غير الليبيين إلاّ بقدر محدود، وأن لا تأخذ حقّها في وسائل الإعلام الملهيّة بإرضاء الأميركان على أرضنا، مع أنها أثارت ضجّة داخلية غير مسبوقة في تاريخ الجماهيرية، وخلقت حالة من الهذيان الشعبي أدّت إلى إحجام موظفي المؤسسات العامة والخاصة، وعلى رأسهم أعضاء اللجان الثورية والشعبية، عن الذهاب إلى أعمالهم وخلّو مكاتبهم.
 
ويقتضي الإنصاف هنا القول بأن الأغرب من أعجوبة عجائب العقيد قد تمثّلت – الى جانب ردود الفعل والهذيان – بحملة من الإعتراضات الشعبية الجارحة – لم يشهدها أي بلد عربي ضد سلطته، عكست هامشاً غير محدود في حرية التعبير الأكثر من لاذع، وأين؟ في الموقع الالكتروني العائد للعقيد نفسه المسمّى "الوطن"، وفي موقع إبنه سيف الاسلام المسمّى "ليبيا اليوم" بدرجة أقسى وأكثر فظاظة وهجوماً، وسنأتي على نقل نماذج منها بالنص الحرفي نظراً لما تعكسه من آراء الجماهير الليبية في تجربة جماهيريتهم وتجربة 40 سنة من حكم "عقيدهم".
 
بدأت "الحكاية" حسبما وصل إلينا عبر الأعين والآذان ، عندما وصل القذافي الى مدينة سرت مساء يوم السبت 2 آذار الجاري لإلقاء كلمته السنوية المعتادة أمام مؤتمر الشعب العام، وقد وصفها منذ البدء بأنها "وقفة تاريخية جادّة بمناسبة عيد اعلان سلطة الشعب".
 
منذ اللحظة الأولى لاعتلائه المنصّة ظهرت على وجهه علائم انفعال مكتوم، أو عدم ارتياح لشيء ما. وَجَالَ في نظره على الجالسين من أعضاء المؤتمر، وخصوصاً الذين يتربعون مقاعد الصف الأول أمامه. وقيل أنه استدعى أحد مرافقيه وطلب منه أن يبلّغ اثنين من الجالسين أمامه بالإنسحاب، وفي هذا الطلب إيذان مسبق باستبعادهم من المسؤولية من قبل المؤتمر ذاته، وهذا ما حصل!
 
كما قيل أيضاً أنه جاء في الأساس ممتعضاً من "إجراءات معّينة" طلب تنفيذها ولم تُنفّذ، أو نُفذّت على غير ما أراد. وزاد الطين بلّة بعد بدئه الحديث الملفت للإنتباه محاولة بعض كبار الجالسين في الصف الأوّل مقاطعته بآراء ومداخلات لم يستسغها.
 
 
 
إنقلاب على الذات.. والماضي
 
هذا الجو بخلفيّاته، دفع العقيد، حسب ما يُرجح أهل البيت الجماهيري، إلى تغيير لهجته في الكلام والبدء سريعاً بطرح مفاجأته الجديدة التي لم يسبق له أن طرحها بهذه الصيغة، لا سيما وأنها تتعلق بمسح أبرز ما أقرّه هو وروّج له طوال الأربعين عاماً – 39 بالتحديد – وهي عمر ثورة الفاتح. والإعتراف الصريح والجريء بفشل الدولة وأجهزتها، وشيوع المحسوبية والفساد في اللجان وبين المسؤولين، والتركيز على ظواهر السرقة التي استشرت بين المسؤولين، بينما الشعب محروم من ثروة بلده، كما قال!
 
طبعاً، جاء وقع هذا الكلام الحدّي والمباشر على رأس الحاضرين جميعاً كالصاعقة، وبدت وجوههم مكفهّرة – من على شاشة التلفزة التي تبثّ الخطاب مباشرة – وقد أصابهم الذهول الكامل، إلى درجة أن المشاهد لم يعد يرى ملامح انعكاسات ما يسترسل القذافي في قوله على وجوههم، وبدا واضحاً أن كلاً منهم دخل في غيبوبة التفكير بوضعه ومصيره الشخصي وكيف سيتصرف، أي فيما سيترتب على كلام العقيد، وليس في مضمونه من زاوية الطرح السياسي أو حتى الإنقلاب على الذات.
 
وباختصار، لم يعد أحد يهتم بأيّة تفاصيل بعد أن عُرف المكتوب من عنوانه حين قال القذافي بوضوح جارح إن خلاصة الأربعين عاماً الماضية قد أوصلته إلى قناعة أنه "لا بدّ أن تنتهي بقايا الدولة التقليدية المتمثلة في اخطبوط الجهاز الإداري الذي أثقل الميزانيات بطبيعته التقليدية، وتبيّن فشله في إدارة الميزانيات لحساب الشعب".
 
أما الحلّ في نظره فيتمثّل – وهنا كان الهبوط المدوّي لصاعقة العقيد – في العمل على توزيع دخل النفط الليبي شهرياً ومباشرة وبالتساوي على الليبيين الذين لم يأخذوا حصّتهم من هذه الثروة، وإعطائها لهم بأنفسهم (أي تسليم اليد) لكي يقوموا هم بتوفير حاجتهم، وإقامة أنشطة انتاجية وخدمية لصالح أنفسهم!
 
أما بالنسبة للدوائر الرسمية والمؤسسات وسائر الأجهزة الإدارية الأخرى فقد ارتأى القذافي أن تُسلّم الى العاملين فيها، لكي تجري إدارتها من قبلهم مجّاناً لصالح أنفسهم أيضاً، وهذا يعني إنهاء كل مظاهر الدولة الرسمية واستبدالها بالناس (كيفما اتفّق!).
 
.. ولكن الزعيم الليبي لم يتوقف عند هذا الحدّ، بل ذهب إلى أبعد منه حين قال: ... وهكذا "تنتهي الحاجة للجان الشعبية الحالية، باستثناء لجنة للدفاع وأخرى للأمن، وكذلك لجنة للمرافق تتولى مؤقتاً مسؤولية الخدمات والأشغال العامة التي لا يتمكن الناس من القيام بها في المستقبل القريب".
 
وفي رأي القذافي أن هذا الحلّ يضمن تولّي كل ليبي مسؤولية تدبير أموره العائلية لوحده وبشكل مباشر من خلال حقّه بالتصرّف في نصيبه من المال الذي سيأخذه دون وسيط (وقد حدّده بخمسة آلاف دولار لكل ليبي في الشهر)، "وستنتهي بذلك مظاهر الفساد والوساطة والمحسوبية والرشوة وكل أمراض الدولة التقليدية".
 
وفي توضيحه للفكرة وهدفها بتفصيل أكثر قال القذافي أنه أصبح "من الضروري أن يكون كل الليبيين أغنياء على حد سواء، وعدم القبول في بلد مثل ليبيا التي يمتلك فيها الشعب ثروة وحيدة هي النفط بوجود مواطن فقير أو محتاج أو خاضع للضمان الاجتماعي، أو يعيش على المعاش الأساسي، أو معتمد على التقاعد، أو على صدقة من ليبي آخر، بينما هناك مواطن ليبي آخر غني".
 
 
 
الحق على الجماهير!
 
وتدليلاً على تمسّكه بهذا التوجّه الجديد ودرءاً لمحاولات توجيه الانتقاد له ولطرحه الفجائي، لفت القذافي أنظار الحاضرين والمستمعين خارج القاعة إلى أن "كل الليبيين كانوا سيصبحون أغنياء جميعاً لو أنهم أخذوا برأيه الذي طرحه عليهم بشأن توزيع دخل النفط نقداً على العائلات الليبية".
 
الجملة الأخيرة تعني لمن يسمعها – إن كان جاهلاً – أن الزعيم الليبي كما لو كان في صفوف المعارضة، أو حاكماً رمزياً لا يمون على شيء مثله مثل ملكة بريطانيا، مع أنه الوحيد الذي يملك ناصية القرار والمسؤولية في بلده، إلى درجة ترداد معارضيه والموالين له طوال العقود الأربعة لحكمه انه لم تكن تدّبُّ نملة في ليبيا إلاّ بإذنه!
 
إستناذا لهذه الحقيقة، لم تدخل الجملة الأخيرة بشكل خاص عقول الحاضرين والمستمعين في الخارج على حدّ سواء، ولم تُقنع أحداً من الليبيين. وإذا كان ثمّة من يؤكّد بأن مثل هذه الأطروحات الغرائبية ليست غريبة على "القائد" طوال عهده الطويل، إلاّ أنها في الحقيقة أكثر من غريبة هذه المرة، سواء في تأثيرها الشمولي أو في نسفها لكامل تجارب الماضي، ثم في عودته بآخر خطابه إلى الإشارة لابنه سيف الاسلام وتزكيته أمام الحاضرين لاستلام دفّة المستقبل بالقول: "... سيف سيهتم بقضايا الشباب... وهذه مسؤولية"، أي سيهتم بكل هذه القضايا عملياً.
 
وهذا يعني أيضاً أن "صاعقة" القذّافي لم تقف عند حدود إلغاء الماضي، بل توريث المستقبل لابنه في حياته، ولكن السؤال: أي مستقبل ستحمله الأيام لجماهيرية الإبن بعد الأب أو بوجوده؟
 
هنا يجدر التوقّف – رغم غرائبية مفاجآت وتقّلب مزاجه – أمام ظاهرة فريدة من نوعها في أقطارنا العربية كافة، وحتى في معظم دول العالم الأخرى، يمكن ادراجها في خانة إيجابية وتسجيلها لصالح العقيد ووريثه سيف حتى لو تحوّلت إلى فوضى وانفلات عام، وهي فتح مجال النقد الذي لا حدود له في موقعي القذافي وابنه لمن يريد أن يبدي رأيه، والسماح بنشر التعليقات التي تتضمن أقذع ما يمكن أن يُنشر في موقعٍ تابع لحاكم. لنقرأ بعضها بالنص الذي وردت فيه على سبيل المثال والاستمتاع في آن:
 
يقول ليبي يُدعى ابو سليم: "كفى ضحك على الذهون، يا جماعة، والله هذه خطة مدروسة لقد ضحك عليكم القذّافي وقاعدين تصفّقوا على دفنكم، ودفنتم أولادكم بالحياة".
 
ويقول ضرار القرقاشي: "سمعت ولكنني مع الأسف لم أفهم شيئاً.. إحنا ما نِبوّش فلوس في أيدينا، نِبوّا وطن يحمينا ونفتخر به وهذا ما لا يتحقّق إلاّ بوجود أولاد أصل ولاءهم للوطن مش للبطن".
 
وفي رأي لعبد النبي أبو سيف جاء بالحرف: "خطاب الأمس كان نعياً متأخراً جداً منك في وفاة تجربة استحوذ عليها اللصوص واللّقاقة منذ ولادتها، وآن لهذه الصفحة السوداء من تاريخنا أن تُطوى، لأن نفس اللّصوص سيتلاعبون وسينهبون بأسماء وهمية ما استطاعوا حتى خطاب غاضب آخر وقرار آخر غير مدروس. لقد شبع شعبنا من هكذا قرارات ارتجالية غاضبة وتجارب غير مدروسة وحالُهُ اليوم أعطب من الذي سبقه".
 
ورداً على رأي لأحد القراء اعتبر فيه توزيع خمسة آلاف دولار لكل ليبي فكرة جيدة، قال "تاكايا"، كما جاء في عنوان بريده الالكتروني: "أنا ما قاهرني شيء أكثر من اللي يقول الفكرة كويّسة. أين الفكرة...؟ فكرة تجويع وتقتيل الناس! بعد 38 سنة من الفشل والضياع ما زالوا يزمّروا ويطبّلوا. ربّي عارف بالنيّة عشان هيك الراجل ما زال قاعد، وأنا من عندي أقول: ربّي يهنّي سعيد بسعيدة ويخليلكم قائدكم!!!"
 
أما القارىء "الشيخي" فقد كان أقسى من الذين سبقوه حيث قال: "خلاصة 40 سنة من التدمير والتجهيل والتخويف والرعب الممنهج يعترف العقيد بالفشل الذريع، ها هو يعود ليؤسس لمرحلة جديدة من الفوضى والخراب الحاقد على هذا البلد وشعبه، الذي صاغه في كتابه اللاأخضر المتأثر ببروتوكولات حكماء صهيون في عموم الفوضى وتسلّط الغوغائية وكذلك فوضى كونداليزا. فمزيداً من الفوضى والإرباك و... و... وتقريب الهتّافين والمرتزقة الأغبياء الذين لا يجيدون سوى السرقة والهتاف الأجوف".
 
وعلى هذا المنوال تستمر "هايد بارك" العقيد وابنه، حيث يمكن أن يقرأ المتتبع تعليقات أكثر تجريحاً مما أسلفنا، كقول "ليبي لكن مش ساذج" كما سمّى نفسه: "سمعتوا كلامه؟ صدقتوه؟ واحد يقول أن الليبيّين دوّخُوه، وشوفو كيف أشار لسيف الاسلام يسلّمله الحكم. الحكاية وما فيها لا إصلاح ولا دياولوا. سيف: "هو ملّهي الشباب وآخذ "جوّ" معاهم، أو آخذين جو معاه! ديسكو وكريسمس وماشي الحال. لكن دولة: لا، لا، لا أظن. الرسالة وصلت من الطاغية الحاكم بأمره والشعب المسكين ما زال في نومه، ومع ذلك ما زلت آمل في انتفاضة شعبية غير محسوبة سيأتي موعدها..."
 
... وهكذا، رغم التفرّد والمزاجية وكل تقلبات القائد، ما زالت معركة التقاذف الجماهيري على أشدّها ضد العقيد وتجربته وابنه المسمّى وريثا منذ الآن.
 
الايجابية الوحيدة أن الناس أصبح بمقدورها ـ حسب الظاهر ـ أن تقول ما تريد... ولكن العقيد يفعل ما يريد... هذه هي آخر صور "الجماهيرية" في نظره ولو... إلى حين!