نوبات القلق تضرب إسرائيل !


توفيق جراد
بعد أن سادت الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية حالة من النشوة بعد الإعلان عن اغتيال القيادي في حزب الله (عماد مغنية)
يوم ال 13 من شهر شباط الماضي, وقد تجلى هذا في بيان أصدره مستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية للشؤون الإعلامية (يعقوب غالانتي) رحب فيه بالاغتيال, كما رحب به رئيس الموساد السابق وعضو لجنة الخارجية والأمن في الكنيست (داني ياتوم), دخلت (إسرائيل) في ذكرى مرور أربعين يوماً على اغتياله في حمّى مواجهة (الثأر) ل(مغنية), متى وأين وكيف? فهذه مسائل متروكة للتقدير, وهي محكومة بمن ومتى, وأين وكيف? أي بكيفية الثأر ومكانه وزمانه, وهذه قضايا كانت موضع سجال على أعلى مستوى قيادي عسكري, الذي ذهب إلى أن الأمر سيكون على هيئة تنفيذ عملية كبرى, ووفقاً لما ذكرته (معاريف), (16/3/2008) فقد قررت أجهزة الأمن الإسرائيلي في اجتماع عقد برئاسة وزير الأمن إيهود باراك وشارك فيه رئيس الموساد مئير داغان رفع حالة الاستنفار إلى أقصى درجة في (إسرائيل) وهيئاتها في الخارج.‏

ولئن عبر هذا السجال الذي مضى عليه من الزمان ما يكفي ليضع الإسرائيليين في (أزمة الانتظار), أصيبوا خلالها بكثير من القلق, فإن السجال ليس في هذه المسألة فقط, وإنما في كل مسألة, عادة ما يكون ملازما لشخصية ونفسية الإسرائيلي باعتباره وارث (الشخصية المركبة) لليهودي الذي يرى في نفسه ممثلاً لكل اليهود في العالم, داخل (إسرائيل) وخارجها, وفقاً لنظرية مناحيم بيغين الذي اعتبر نفسه مسؤولاً عن كل يهودي في العالم, حتى ولو كان مقيماً في مضيق (مجلان) الفاصل بين أميركا الجنوبية و (أنتكارتكا) منطقة المحيط المتجمد الجنوبي.‏

هذا السجال يعتبر من الحقائق الملازمة لنظرية الأمن الإسرائيلي, إن كان الأمر (السجال) متعلقاً بقضايا السلم والحرب, فإذا كان من الحقائق الاجتماعية التي يشتهر بها اليهود, وهي أنه (إذا التقى اثنان من اليهود كانت هناك ثلاثة آراء), فإن (إسرائيل) التي لا تستطيع العيش دون سجال, هي (إسرائيل) التي لا ترى مبرراً لوجودها بعيدة عنه وخاصة ما اتصل منه بالقضايا الأمنية وما يتفرع عنها.‏

تقرير لجنة فينو غراد الذي بحث في إخفاقات العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف عام 2006 لاحظ هذه المسألة في أكثر من موضع, فقد نص التقرير على أنه (ليس بوسع الإسرائيليين البقاء في هذه المنطقة, ولا يمكنهم الوجود فيها بسلام أو بهدوء, من دون أن يعتقدوا اعتقاداً جازماً بأن من في المنطقة التي يعيشون فيها وفي محيطها بأن لدى (إسرائيل) زعامة سياسية وعسكرية تتمتع بقدرات عسكرية ومنعة اجتماعية, تتيح لها الرد على الراغبين في المساس بها), ويضيف التقرير في موضع آخر ما هو أبعد من ذلك فيقول: (إن محاولات تحقيق السلام أو التسوية يجب أن تتم من موقع القوة العسكرية), ما يعني أن الإسرائيليين لا يقيمون وزناً للعمليات التفاوضية و (السلام) الذي يتمخض عنها, ما لم تكن لهم اليد العليا فيه خدمة لأهدافهم, وهذا ما عبر عنه (شلومو بروم) كبير الباحثين في معهد (دراسات الأمن القومي) في جامعة تل أبيب بقوله: (إن إسرائيل لا تفهم إلا بالقوة), (انظر تقديرات استراتيجية, شباط 2005).‏

وكان رئيس الحكومة إيهود أولمرت أبلغ الكنيست في معرض دفاعه عن الجيش الذي انتقدته لجنة فينو غراد بأنه (ليس لإسرائيل جيش آخر, وليس لها حاضر ولا مستقبل من دون هذا الجيش), وهذه ترجمة لحقيقة اجتماعية فرضها المكان والزمان وتاريخ الكراهية التي تمتع بها اليهود من جميع الأقوام التي حلوا بينها, ومفادها أن (إسرائيل جيش خلقت له دولة) أو جماعات مشتتة في شتى بقاع الأرض جمع عدد كبير منها في هذه الأرض, فاقتضى الأمر أن يكون لها (دولة مُعسكرة).‏

التقرير الذي عرضته شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية من قبل, في وقت سابق من شباط 2008 يعتبر أن الأخطار التي تتعرض لها (إسرائيل) لم يسبق لها مثيل, ورغم أن البعض رأى في هذا الإعلان تسويغاً لحرب مقبلة, فإن الأمور تبدو من وجهة نظر مدققة أشد تعقيداً, فإسرائيل التي تمتلك اليوم أكبر ترسانة من السلاح, وتتمتع بتحالفات دولية هي الأقوى, وتواجه عدواً يزداد تفككاً, تجد نفسها عملياً في مأزق استراتيجي حرج, وربما كان هذا ما دفع أحد كبار معلقيها, وهو (عوزي بنزيمان) من صحيفة (هآرتس) للحديث عن أن أهم التعقيدات والمشكلات التي تواجه (إسرائيل) هي قضية (الكراهية), مع أن بنزيمان يعلم أكثر من غيره قصة الكراهية التي لا تفارق التاريخ الاجتماعي عند اليهود, معرباً عن اعتقاده بأن (العرب وغيرهم باتوا أشد كراهية لإسرائيل, وهذا ما يولد طوال الوقت عداوات جديدة تطيل أمد الصراع), لم يقل بنزيمان لماذا العرب يكرهون إسرائيل? والجواب هو لأن (إسرائيل) التي تحتفل الآن بالذكرى الستين لقيامها على أرض فلسطين, قامت على أرض عربية (مغتصبة) وفوق ذلك شردت أهلها (لأنها لم تكن أرضاً بلا شعب), وأصبحوا لاجئين, وإذا كان علم الآثار يؤكد عروبة الأرض أو (كنعانيتها), وهذا ما يؤكده البروفيسور زئيف هيرتسوغ أستاذ علم الآثار في جامعة تل أبيب, فإن اللاجئين باتوا يشكلون الوجه الآخر لقيام إسرائيل, فالمتلازمة القائمة الآن هي (لا حل لمشكلة إسرائيل إلا بحل قضية اللاجئين على أرض وطنهم وليس خارجها) وبغير ذلك سيبقى الصراع مؤبداً.‏

(إسرائيل التي لا تفهم إلا بالقوة) تعيش حالة من الإرباك, لا يثيره فقط الهاجس الأمني, وإنما الهاجس الاقتصادي وتوقعات السوق, وكلاهما ناجم عن (أزمة الدولار) الأمر الذي قد يشكل بالنسبة لها (نكبة) حقيقية تعصف بالاقتصاد الإسرائيلي الذي ينال هباته من الولايات المتحدة بعملتها المتآكلة, وبها تثمن العلاقات التجارية المتبادلة بين الطرفين.‏

لقد ألقت الأزمة المالية الأميركية بظلالها الكثيفة على الاقتصاد الإسرائيلي الذي يقول (ميخائيل برونو) أحد محافظي بنك (إسرائيل) (البنك المركزي) سابقاً: إنه يعاني من أزمة تعود إلى عام 1953 -بداية الأزمة الكبرى التي فاقت أزمة الثمانينات- لا بل أهم. يقولون: (إن تاريخ إسرائيل هو تاريخ أزمة اقتصادية), وإذا كان وجهها بين عام 1953-1967 انخفاض نسبة العاملين في الزراعة من 54% من قوة العمل المدنية إلى 28% لتنتهي (إسرائيل) إلى دولة (لا تأكل مما تزرع) وهي الآن مهددة بفقر بالمياه لدرجة (القحط) في العام 2009 ومعياره حسب البروفيسور (أوري شني) المدير العام لمصلحة المياه في (إسرائيل), هو أن خطاً في بحيرة طبريا سيهبط إلى ما دون الخط الأحمر (فهل تشهد المنطقة حرب مياه?), وقد أضيف إلى هذا الوجه وجه آخر هو (العولمة التي تجلت بأزمات أسواق البورصة) المتتالية من مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي.‏

ولعل ما جرى في البورصة الإسرائيلية وما لحق بها من خسائر بلغت خلال الفترة (تشرين الأول 2007 وحتى مطلع آذار 2008) قدرت ب 135 مليار شيكل أي ما يعادل 37 مليار دولار, تلازماً مع أزمة الدولار, وتلقي الاقتصاد الإسرائيلي أموالاً كثيرة بالدولار أسهمت في تدهور هذه العملة مقابل الشيكل, يظهر حجم التخبط الذي يعيشه الاقتصاد الإسرائيلي, فبدت معالم الأزمة ليس فقط في تراجع مستوى الأمن بكل أطيافه (والذي يقاس بكل ما يمتلكه الخصم, هذا إذا افترضنا أن العرب على قلب رجل واحد), وإنما بما أصيبت به المصارف الإسرائيلية من خسائر, التي ليست مجرد نسب حسابية بل هي أموال وأرصدة وودائع بعضها للضمان الاجتماعي, وبعضها للمصارف, وهي خسائر في مجملها تمس المواطن, اضطر البنك المركزي إلى التدخل للحفاظ على الدوار (3.4 شيكل) بعد أن تردى إلى ما دون ذلك بكثير.‏