السياسة السورية ثبات في الإستراتيجية ومرونة في التكتيك !

في مقاربة السياسة السورية تجاه جملة القضايا موضع الاهتمام من قيادة الجبهة الوطنية، أو من حزب البعث التي تحددها وتقوم بالسهر على تطبيقها ووضع الآليات المناسبة لها القيادة المركزية والحكومة تأتي مسألة تحديد الأهداف والدقة في وضع الأولويات للتنفيذ في مقدمة الإستراتيجية المرسومة ربطاً بالفترة الزمنية المقدرة للإنجاز.
حيث لا يمكن لمقال أو أكثر الإحاطة بهذه السياسة فقد اخترت منها البعد القومي بما يعنيه ذلك من قضايا تتعلق بالقمم العربية وعناوين التضامن العربي والعمل العربي المشترك كعنوان دائم الحضور على جدول أعمال الحزب والدولة في القطر العربي السوري، وهو العنوان الذي تم ترسيمه مقدمة وخطوة لابد منها على طريق تحقيق الوحدة العربية كهدف إستراتيجي يمثل الشعار الأبرز لسورية قيادةً وشعباً، وهو الحلم الذي يراود كل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج. ولعل التجربة السورية في العمل بهذا الاتجاه تبين بوضوح صحة ما تقدمنا به حول المرونة في التكتيك مع ثبات في الهدف أو الإستراتيجية المحققة لهذا الهدف.
وينطبق ذات التوصيف على باقي العناوين كالقضية الفلسطينية التي مثلت لسورية مركز الاهتمام القومي الأول على الصعيد العربي. وفي تجليات هذه الرؤية السورية لمركزية القضية الفلسطينية يتبوأ العداء الثابت للمشروع الصهيوني «وتجسيده المادي إسرائيل» مكاناً أساسياً في مجمل السياسة السورية داخلياً وخارجياً.

تحديد الأهداف والدقة في وضع الأولويات للتنفيذ في مقدمة الإستراتيجية المرسومة ربطاً بالفترة المقدرة

"الترتيبات اللبنانية
وضمان الحدود مع إسرائيل
إن الموقف السوري من لبنان ينطلق أيضاً من ذات الرؤية السورية للمشروع الصهيوني باعتباره الخطر الأكبر على سورية والأمة العربية والكابح الذي لابد من إزالته لتعبيد الطريق أمام أي تقدم باتجاه الوحدة العربية أو الحرية والاستقلال لشعوب منطقتنا العربية وفي هذا تنظر سورية لموقع لبنان داخل خط المواجهة مع العدو الصهيوني وتبني علاقاتها وسياستها، ولذلك لا نجد صعوبة كبيرة في فهم المواقف التي تتخذها سورية تجاه معضلات لبنان الداخلية، وحول لبنان بالتحديد لابد أن نذكر مسألة الجغرافيا الحساسة لكل الترتيبات السورية في الدفاع عن نفسها تجاه أي عدوان إسرائيلي محتمل فالبقاع الغربي في لبنان لا يبعد عن العاصمة السورية دمشق أكثر من 30 كيلومتراً، ولذلك لا يمكن لأي قيادة سورية أن تتغاضى عن الترتيبات اللبنانية فيما يتعلق بضمان حدودها مع إسرائيل كما بالسياسة اللبنانية تجاه التعامل مع إسرائيل عموماً.
وفيما يتعلق بالحقوق العربية والأرض العربية فسورية صاحبة موقف مبدئي لا تحيد عنه ويتلخص في لزوم عودة الحق لأصحابه كما قدسية الأرض العربية أينما كانت ضمن حدود الوطن العربي المعروفة وفي هذا فإن سورية لا تتغاضى عن الجهر بالموقف القومي الصحيح تجاه ذلك وكلنا يعرف موقفها من الجزر الإماراتية الثلاث «طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى» التي تحتلها إيران وهي الصديق والحليف الأقرب لسورية حيث تقف سورية بوضوح مع عودة هذه الجزر للإمارات العربية المتحدة.
وفي العراق الذي يشكل اليوم عنوان الجرح العربي النازف، والذي استبيح من قوات الغزو الأميركي فقد كان لسورية موقفها القومي المبدئي والصحيح من الاحتلال والغزو وما زال الموقف كما هو باعتبار الوجود الأميركي قرصنة واحتلالاً لقطر عربي لابد أن ينتهي وأن مقاومته ودحره هو أمر شرعي وواجب وطني وقومي بغض النظر عن موقف القيادة العراقية المرتبطة بالاحتلال والعاملة بحمايته في المنطقة الخضراء. كما يمثل خط دعم المقاومة العربية في أي مكان عنواناً ثابتاً من عناوين الإستراتيجية السورية فيما يتعلق بالجانب القومي.
وفي الشأن السوداني ترفض سورية كل أشكال التدخل الخارجي في شؤون السودان بذرائع إنسانية أو أخلاقية أو عرقية أو أي ذرائع أخرى، وهو ما ينطبق على السياسة السورية تجاه الصومال وغيرها من الدول العربية.

 الرئيس الأسد سيكون أكثر قدرة على تجسيد الطموح العربي لمعالجة أزمات المنطقة
" منهج متكامل
في الإستراتيجية السورية
إن جملة العناوين التي تناولناها في الخط الإستراتيجي للسياسة السورية تمثل منهجاً متكاملاً ينطلق من فهم عميق وأيديولوجية راسخة وإيمان مطلق بوجود أمة عربية واحدة، وأن الحدود التي تفصل بين مكونات هذه الأمة سواء أكانت جغرافية أم اقتصادية أم حتى اجتماعية هي حدود مصطنعة، وهي حدود أرساها الاستعمار من أجل استمرار سيطرته على مقدرات هذه الأمة وتطويعها لخدمة مشروعاته وضمان مصالحه، كما لضمان وجود الكيان الصهيوني في فلسطين.
مما تقدم يمكن فهم كل السلوك والسياسة السورية وعلاقاتها مع باقي دول العالم كما مع شقيقاتها العربيات، إن سوء العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية يمكن فهمها وتسويغها على خلفية ما أسلفنا، وذات الأمر ينطبق على الموقف تجاه كل معضلات المنطقة بما فيها المسألة اللبنانية التي تشكل الآن حجر الزاوية في الدعاية المغرضة على سورية ولتسويغ اندلاق البعض تجاه أميركا رغم عدوانها الوحشي على العراق ومساندتها المفضوحة للكيان الصهيوني. وعندما كانت أميركا منصفة مع الحقوق العربية ولو بشكل نسبي فقد كانت العلاقة مع سورية أفضل مما هي عليه الآن وفي هذا تكون المرونة.
أما في التكتيك السوري والمعالجات اليومية أو حتى المرحلية لقضايا الصراع القومي بعناوينه المختلفة في فلسطين ولبنان والعراق والسودان وغيره فسنجد الكثير من الأمثلة على مرونة ذكية وقدرة على احتواء الموقف واتخاذ الخطوات وعمل المقاربات الضرورية لخدمة الهدف الإستراتيجي، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد كان خطاب الرئيس بشار الأسد في القمة التي رأسها نموذجاً لما نقول حيث كان الخطاب مرناً إلى أقصى حد ويعطيه بصفته رئيساً للقمة لمدة عام الفرصة كاملة في التحرك بحرية لرأب الصدوع العربية بما يعيد التضامن العربي إلى سكته الصحيحة. كما كان الموقف السوري ذاته من لبنان حين رفضت سورية أن يناقش الملف في غياب ممثلي الشعب اللبناني أو الاستماع لكلمة السنيورة وهو غائب، واكتفت بالتأكيد على المبادرة العربية بالخصوص وأبقت أبوابها مشرعة لأي مبادرة لبنانية للمصالحة وتحسين العلاقة معها.

الأولوية لقوى المقاومة
وفي الشأن الفلسطيني نعرف أن التكتيك السوري يعطي الأولوية لقوى المقاومة باعتبارها الوسيلة الأجدى للضغط على إسرائيل من أجل استعادة الحق الفلسطيني، كما أن الموقف الأميركي من المقاومة الفلسطينية واعتبارها إرهاباً يجعل سورية تميل بشكل طبيعي لدعم هذه القوى لأن سورية ذاتها موصوفة بالإرهاب على خلفية موقفها المبدئي من الحقوق العربية وفي مواجهة الظلم الأميركي لأمتنا واحتلالها للعراق وسيطرتها على كل منابع النفط العربية. ورغم ذلك نجد العلاقات الجيدة مع السلطة الفلسطينية وحركة فتح والتعاون معها في كل المناحي الداعمة للعمل العربي المشترك بما في ذلك النشاطات الاقتصادية والثقافية وحتى الأمنية.
ويمكن أيضاً فهم العلاقات السورية- الإيرانية من ذات الخلفية التي أشرنا إليها آنفاً وهي علاقة ذات أبعاد مختلفة تعود بالنفع والفائدة على الطرفين وليس هناك تغليب لمصلحة طرف على آخر أو أن دولة منهما تعمل في خدمة الدولة الأخرى، أو كما يقال من موقع ضعف تجاه شريك قوي. إن الشراكة السورية- الإيرانية تستهدف الحفاظ على الحقوق العربية وتقدم لسورية وللمقاومة الفلسطينية واللبنانية دعماً تفتقده من بعض الأشقاء، وفي المقابل تستفيد إيران من هذه العلاقة باتجاه تعزيز نفوذها في المنطقة بما يدعم مواجهتها للتهديدات الأميركية التي نسمعها صباح مساء. إن اقتراب سورية أو ابتعادها عن هذا الطرف أو ذاك وتمتين علاقتها مع هذه الدولة وإهمالها مع تلك يدخل ضمن التكتيك السياسي وفي هذا تظهر الملاحظات على السياسة السورية وهو أمر طبيعي ومنطقي، فليس في استعراضنا للسياسة السورية على المستوى التكتيكي أي حكم مطلق بصحة كل ما قامت أو تقوم به سورية، لكننا أردنا من طرح العناوين الإستراتيجية في العمل القومي لسورية تأكيد المنطلقات والأهداف والحكم على التكتيك والسلوك اليومي على هذا الأساس، وعليه فإن كل خطوة سورية تقربنا من تحقيق الهدف هي خطوة في الاتجاه الصحيح والعكس صحيح، وفي الأيام والشهور القادمة سيكون أمام سورية وقيادتها عملاً ونشاطاً في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه القمم السابقة وفي كل العناوين لأنه التحدي الذي واجهته سورية عبر تخفيض مستوى تمثيل بعض الدول، وحديث أميركا وعملائها عن إخفاق القمة، وهو ما نثق بقدرة سورية على فعله من خلال المرونة التي تتحلى بها السياسة السورية وقدرتها على التكيف مع كل المستجدات والمتغيرات، كما التأييد والشعبية التي تحظى بها سورية في مواقفها القومية المبدئية وعدائها المفهوم للسياسة الأميركية ومشروعاتها في المنطقة. وفي تقدير المراقبين والمحللين فإن سورية قد خرجت من هذه القمة عبر تكتيكاتها المرنة بنجاح غير متوقع نتمنى أن يتم استثماره بشكل جيد، وفي هذا لابد أن الرئيس بشار الأسد سيكون أكثر قدرة على تجسيد الطموح العربي لمعالجة أزمات المنطقة وإعادة التضامن العربي إلى سكته الصحيحة وتطبيق ما نصت عليه قرارات قمة دمشق، وستبقى عيوننا شاخصة تجاه حركة الرئيس بشار الأسد بصفته رئيساً للقمة وطريقته في تمييزها عن سابقاتها.

الوطن