لا خوف على أحرار مصر!


 
 بقلم خالد حسن
ليس المهم من قاطع ومن شرك في الإضراب المصري، وإنما الأهم أن لا يتراجع الأحرار وقوى الضغط في مصر، فالنظام فقد صوابه وأحرق أوراقه، وجرعات البطش المتزايدة التي قابل بها احتجاج المضربين دليل على الإفلاس وبداية الاحتضار. والمطلوب، الاستعداد لما بعد هذه اللحظة، والالتفاف حول مطالب إصلاحية ودستورية، والالتحام في ساحات التدافع.
 
لقد بدا نظام مبارك أمس، مرتبكا فاقدا لعقله وصوابه، كمن يبني قبره بيديه. ومن الواضح أن تيارا في النظام يقود الحكم إلى حتفه بطريقة جنونية، فكلما أمعن في القسوة، كلما ازداد نظام الحكم هشاشة. لكن هل تساءلوا مرة: أليس من سبيل آخر لانتزاع "الولاء" غير العنف؟
 

 
في السابق استدرج النظام الإسلاميين من خلال العصا والقسوة، ليسوقهم إلى العنف سوقا، وبهذا أمكنه الإجهاز عليهم، واليوم، بعد طول مراس وإنضاج لمسيرة النضال، تواجه آلة النظام القمعية، ليس "بالخروج على القانون"، وإنما بالتمسك بشرعية وقانونية الفعل السلمي الضاغط، من حركة سلمية جامعة كأوسع ما يمكنها أن تكون عليه اليوم، تجاوزت مرحلة الشعارات لتقتحم ساحات التأثير والتفاعل الاجتماعي والسياسي، لماذا؟ لأنه ربما أدركت قوى الحراك السلمي المتدفق، أنه كلما اتسعت أرضية الانطلاقة الواعدة الفاعلة، كلما كانت أعمق في التأثير.
  
إنه وهن الحكم وعدم قدرة الحاكم على الفعل المشروع المؤثر، ومن ثم سوء التقدير، إيذانا بحالة الشلل العام، بعدما تهيأت الظروف والأجواء لحراك شعبي فاعل وضاغط، تجاوز الجماعات والأحزاب والقوى التقليدية، وأسس لحالة من الوعي العام المشترك، معلنا عجز النظام عن التصرف الواعي والمسئول بأمور الرعية، وأن الوطن مستهدف والأمن القومي مكشوف، والظلم مؤذن بخراب العمران.
 
 

  
ولا يعني هذا بالضرورة أن القوى الدافعة في مصر، بإمكانها إحداث نقلة نوعية في الأوضاع الداخلية، فلا زالت إشكالية البرامج والرؤى والخطة الشاملة والإستراتيجيات مطروحة بقوة، لكن ما يهمنا حاليا هو أن الأفكار "الحية"، والتي حققت الفعالية والالتفاف الشعبي، لم تنتجها القوى المتحكمة في مصائر الأمم والشعوب، وإنما بلورها وصاغ مفرداتها، تدافع أفكار وحضور أكثر من مصدر وموجه ومؤثر في العملية التغييرية، وهذا في حد ذاته مكسب ومغنم، لا ينبغي تجاهله.
  
إن الذين يحاولون وضع مجتمعاتهم في توابيت هامدة ويسفهون شعوبهم، لأنها ملت من السكون والركون، ما عليهم إلا أن يراجعوا حساباتهم وخياراتهم، لأن "عدوى" الوعي وصحوة العقل، انتقلت إلى الجميع أو تكاد. نلزم الجماهير بالموت البطيء ونرغمها أن تئد آراءها وتدسها في التراب، بينما شعوب أمريكا اللاتينية (التي لا تختلف أوضاعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عن أوضاعنا) تتحرك وتنتزع حقوقها المشروعة سلميا.
  
إن بعض من يحكم لا زال يفكر بعقلية العهود الغابرة، عقلية التملك وكأنه في شركة خاصة ذات أسهم محدودة، نتعامل مع العقول كما نتعامل مع العقارات، من خلال منطق الاستحواذ والمصادرة.
 
 

 
 
إن معركة الحريات لم تتوقف، وتشهد في الفترة الأخيرة يقظة وصحوة، يمكن احتواءها لفترة أو اختزالها في بعض الأماكن لوقت محدود، لكن تجاهلها وتسفيهها خطأ استراتيجي قاتل. ما الذي يمكن أن تشكله صيحات احتجاجية وتجمع أشخاص (قل عددهم أم كثر) من تهديد للنظام والأمن؟ في ظل أي مناخ ظهرت الحركات الباطنية والتنظيمات السرية عبر التاريخ، أليس في أجواء الكبت والخنق وكتم الأنفاس؟ لماذا نعتقد دائما أن حرية التعبير تعني حرية التآمر؟ إن الكبت مؤذن بخراب العمران، ولا يمكن لمشاريع الإصلاح والتنمية أن تتحقق في ظل تغييب الوعي والعقل الحر، وكيف نريد لمجتمع أن ينضج من غير أن يمارس حقه في التعبير، فنصوبه إذا أخطأ ونسدده إذا وُفق؟!، ثم أليس العمل العلني المشروع أرحم للحاكم والشعب من الدهاليز والظلمة، وهل انتشرت الأفكار المدمرة واجتاحت المجتمعات في الظلام من غير رقيب إلا في أجواء الكبت والمصادرة؟ ثم نتساءل، لماذا لم تنجح مشاريع التنمية والإصلاح الرسمية؟ لأن القائمين عليها يحاربون الفكر الحر ويطاردونه.
  
ماذا يعني أن يطارد الرأي بـ"الهراوة" و"العصي" في أحسن الأحوال، أليس هذا إهدارا لكرامة الإنسان وعزته؟! ثم أليس من الضيم والتعسف أن نحجر على الناس، لأن البعض (وهم قلة) لا يدرك قيمة الحريات (من أصحاب الشهوات والشبهات) أو لا يريدها لأنه من أصحاب المصالح الضيقة والمتنفذين؟
  
وأعجب من صمت بعض "الليبراليين" ودعاة الانفتاح (بالحق والباطل) إزاء مظاهر "الإرهاب" الرسمي، بينما تجدهم لا يفوتون أدنى فرصة للحديث عن المجتمع المدني والحريات الأساسية، وكأن الأمر أصبح من قبيل الاجترار والاستهلاك، ومظهر من مظاهر "التنوير" و"التحول" ليس إلا، وليس عاملا حيويا في صناعة الوعي، وغابت عنه الفكرة الدافعة ومعاناة التدافع والنضال.
  
ولا نخشى على الحريات المشروعة من حاكم يعتقد أنه يملك عقول الناس، بقدر ما نخاف عليها من منافح عنها صاحب مواقف ازدواجية، هذا جانب، والجانب الآخر أن تُفرغ قضية الحريات المشروعة من محتواها وتتحول إلى "موضة" تُؤهل صاحبها للانخراط في نادي "التنويريين"، وبهذا تتحول من قضية مطلبية إلى موضوع أكاديمي تجريدي!، أو استجابة لمصلحة أو رغبة آنية للحاكم.