"لاعب الطائرة الورقية"


تماما كما كانت الطائرات الورقية الملونة تحلق في سماء العاصمة الأفغانية كابول قُبيل الاحتلال السوفييتي، كانت أحلام الناس الآمنين وآمالهم المنطلقة بحريّة وسلام ورغد عيش سقفه السماء.
 
اكفهرت السماء على حين غرّة، وتشابكت خيوط الطائرات الورقية فتقطّعت أوصالها، تناثرت الأحلام واغتُصِبت الآمال على هدير الدبابات ودوي القذائف.. من خلال هذه الشجون الرمزية حاكت أنامل الأفغاني خالد الحوسيني رواية "لاعب الطائرة الورقية" التي حققت نسبة مبيعات عالية، وكذلك الفيلم الذي حمل نفس الاسم والذي رُشِح لجوائز عالمية عدة منذ بدء عرضه قبل أشهر.
 
يصوّر الفيلم ليالي كابول الآمنة قبل بدء دوامة الحرب التي خلّفت كل منها الأخرى، في تلك الحقبة ثمة طبقة مرفهة تعيش نمط الحياة الغربي برفاهيته وتقدمه، فيما يعيش العامّة حياة يتوافر فيها الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم.
 
وإن كان الطفل أمير ووالده المثقف، وفي مقابلهما الطفل حسان ووالده قد تقاسما جميع مراحل الفيلم الزمنية، إلا أن الفترة الآنفة الذِكر كانت العصر الذهبي لأمير ووالده اللذين يسكنان فيلا فارهة تغص بوسائل الترفيه والثقافة، بينما حسان ووالده يعملان خادمين عندهما.
 
ومن ضمن تلك الحقبة كانت تفاصيل طفولة أمير وحسان، اللذين كانا يمثلان طرفا نقيضا، فأمير طفل منطو وضعيف الثقة بقدراته رغم وضعه الاجتماعي المتميز، بينما حسان يضج بالجرأة والقيم النبيلة التي يلقنها له والده.
 
نقطة مفصلية في علاقتهما كانت عندما تعرّض حسان لاعتداء جنسي من قِبل أحد الشبان واسمه عاصف إثر رفضه تسليم طائرة أمير الورقية له، بينما أمير يرقب المشهد عن بعد من غير أن يمد لحسان يد العون، بل ويتهم حسان في أعقاب ذلك بسرقة ساعته كي يترك الخدمة في منزل والده وبالتالي ليستريح من عذاب الضمير وعقدة النقص التي يشعر بها أمام نبل حسان.
 
وكأنما انحدر الحق منذ تلك اللحظة التي ظُلِم فيها حسان، إذ تبدأ برحيله حقبة الغزو السوفييتي لأفغانستان، ما يضطر أمير ووالده لترك بيتهما الفاره واللجوء خفية لباكستان ومن ثم التقدم بطلب هجرة للولايات المتحدة، حتى يتلقى أمير اتصالا هاتفيا من صديق والده القديم بعد سنوات الهجرة الطوال يدعوه فيه للسفر إلى أفغانستان، ليرى بأم عينيه مرحلة ما بعد الغزو السوفييتي والمتمثلة بإمساك حركة طالبان بمقاليد حكم البلاد.
 
في خضم كل ذلك، أبدع المخرج مارك فورستر في التقاط أدق تفاصيل الحياة الأفغانية وملامح أهلها ولهجاتهم. وفي هذا المقام تحديدا ثمة مقارنة بسيطة تطرأ على البال بين الأفلام العربية التي تحدثت عن الغزو الأجنبي لأراضيها وبين الأفلام غير العربية التي تناولت نفس النقطة، إذ إن العرب انقلبوا فجأة في أفلام كـ "معلش إحنا بنتبهدل" و"ليلة سقوط بغداد" من أصحاب مأساة إلى مهرّجين، فكان أن ضاعت جدية القضية وكارثيتها الإنسانية في غياهب الكوميديا غير المبررة، بينما أبدع الفيلم التركي "وادي الذئاب" في تصوير شناعة الاحتلال الأميركي للعراق حتى أنه أثار عاصفة من الاحتجاجات العالمية.
 
نقطة أخرى أثارها فيلم "لاعب الطائرة الورقية" وهي دقة العرض ومصداقيته من حيث اللهجات وحتى ملامح الوجوه المشارِكة، إذ مقابل هذه الدقة المتناهية في الفيلم الآنف، فإن فيلما عربيا متميزا كـ "السفارة في العمارة" الذي لعب بطولته الفنان عادل إمام قد أخفق بشكل واضح في إيراد اللهجة الفلسطينية الصحيحة لبعض الشخصيات برغم محوريتها، وبرغم توافر عدد لا بأس فيه من الوجوه الفنية الفلسطينية.
 
عود على بدء، فإن حجر الرحى في "لاعب الطائرة الورقية" هو الاحتلال، إذ هو من سطا على سعادة الأفغان وأمنهم مُدخِلا إياهم في سلسلة حروب متتالية لم تنته إرهاصاتها حتى اليوم، وهو من أجلاهم عن أرضهم لتتلقفهم دول المنفى، وهو من أفرز لهم حركة طالبان التي أثبتت أن ظلم ذوي القربى أشد وطأة.
 
تمثلت خطايا الاحتلال هذه في مشهد جلاء أمير ووالده ليتحوّلا إلى عزيز قوم ذل، فمن كل تلك الرفاهية على أرضهم إلى عاملين في محطة وقود وبائعين في سوق البضائع المستعملة في كاليفورنيا. كذلك تمثلت هذه الخطايا في تعريج الفيلم على أساليب الحرب المتعددة ومنها الاعتداءات الجنسية التي كان بطلها عاصف الذي غدا قياديا في تنظيم طالبان، إذ يأخذ الأطفال من ملجأ الأيتام ليعتدي عليهم ومنهم ابن حسان الذي اعتدى على والده عندما كان مراهقا، إذ كانت له منذ ذلك الحين ميول نازية معتبرا أدولف هتلر رمزه الأعلى. هذا المقطع تحديدا يفتح بابا من التساؤلات عن هل كون إقحام هتلر في الأحداث كان لضرورة درامية، أم إنه إلماح لمعاناة التمييز العرقي التي عاناها اليهود تحديداً، وبذا نكون أمام تسليط الضوء على معاناة اليهود، مع التجاهل التام لما ألحقوه بالفلسطينيين رغم أنه لا ناقة لهم ولا جملا فيما أوقعه بهم النازيون!
 
وكان هنالك أيضا مشهد ابتزاز الضابط الروسي لقافلة لاجئين أفغان عندما اشترط مرورها باغتصاب امرأة منهم، ليقف والد أمير في وجهه لمنعه من ذلك حتى تدخل المسؤول العسكري عن الضابط فأوقفه. ويظهر من خلال الفيلم كم تأثر أمير بموقف والده هذا وهو ما اتضح عندما انتفض غضبا حين صارحه صاحب الميتم بما يفعله قائد طالبان بالأطفال، وقد يكون ذلك ترميزا أميركيا إلى أن جذوة المقاومة لدى الشعوب المحتَلة باتت تخبو، إذ ما كانت تستميت في الدفاع عنه بات الآن مسلّما فيه كأمر واقع. كذلك يرتاب المشاهد من مدى مصداقية أن قياديا في طالبان قد يُقدِم في الواقع على فعل ذلك، أم أن ذلك مجرد بهارات أميركية لتلميع صورتها مقابل استبداد طالبان.
 
ذات الشك يدور حول دافع تلميع حقبة طغيان الطابع الغربي على الحياة الأفغانية(أي ما قبل الاجتياح السوفييتي)، وتصوير أن لا حل للأفغان إلا العيش تحت مظلة الهيمنة الأميركية، إذ تم ذلك في الفيلم من خلال تعرية فظائع السوفييت وطالبان من غير التطرق إطلاقا للحرب الأميركية على أفغانستان وما جرته من وبال.
 
رمز آخر وقف المشاهِد أمامه متعاطفا ومرتابا بعض الشيء، وهو تصوير المرابط على أرض وطنه المحتَل بإحدى صورتين: إما مقتول أو حي بذلّ وفقر مدقع،فحسان يُقتل على يد طالبان بسبب تمسكه بالعودة إلى بيت والد أمير لحمايته، والشق الآخر تمثل في عبارة صاحب الميتم الذي برر رضاه عما يفعله قيادي طالبان بالأطفال قائلا "أنتم في الخارج لا تعلمون عمّا نعانيه نحن هنا على أرض الواقع"، بيد أن الفيلم أغفل في هذا المقام الاعتراف بأن كل الشعب اللاجئ منه والمرابط، المعتدل منه والمتطرف ما هو إلا ضحية للاحتلال، إذ إن من حرم شعبا آمنا حياته الطبيعية كباقي شعوب العالم هو الاحتلال وآلته العسكرية وما أفرزته من تنظيمات متطرفة تخرج من رحم الشعب نفسه بفعل تكالب ظروف أخرى كالفقر والبطالة.
 
ورمز والد أمير في الفيلم إلى جيل المثقفين الأحرار الذين رضعوا عزّ بلادهم قبل أن ينهشها كل هؤلاء المحتلين والغزاة، لذا فلربما كان هو بطل الفيلم الأقوى، بيد أن المدرسة الأدبية الغربية أضفت صبغتها من حيث إسباغ الواقعية على صورة البطل عن طريق مساواة حسناته بخطاياه، لذا فإنه يتضح في نهاية الفيلم أن والد أمير كان مرتبطا بعلاقة غير شرعية مع زوجة خادمه ليظهر بأن حسان هو ابنه وليس ابن خادمه، ما دفع أمير بعد كشف حقيقة والده أن يبحث عن ابن أخيه حسان ليخلصه من براثن طالبان في محاولة منه لتكفير خيانته السابقة لأخيه. ولربما يكون في هذه النقطة تحديدا رمز إلى أن الدم الإنساني أقرب من أن يُفصل بينه عرقياً، فالنظرة كانت دوما لحسان بأنه أقل شأنا من أمير لأنه من فئة "الهازارا" وليس "البشتون".
 
وبرغم أن الأفغان تميزوا في عرض صورة رائعة عن جمالهم وتقاليدهم المحافظة وتدينهم المعتدل، إلا أنهم أوصلوا المشاهِد إلى نتيجة غربية بحتة وهي أن الإسلام يفلح في النطاق الروحي فقط وليس السياسي، وما صورة طالبان في الفيلم إلا مثال عن ذلك، برغم أنه كان حري بهم ولو من باب التنويه الشفهي على لسان أحد الأبطال أن يقطعوا أي صلة بين نموذج طالبان وفظاعاته ونموذج الإسلام السياسي الحقيقي المتمثل في حقبته الأولى.
 
وإن كانت مشاهد الحنين إلى الوطن ولياليه الحالمة تثير شجونا لا حدود لها، وخصوصا مشهد أخذ والد أمير حفنة من تراب كابول إلى المنفى وتقبيله لهذه الحفنة قبل وفاته، ومشهد حسرة أمير على مآل بيتهم الفاره عندما شاهده بعد عودته لكابول وقد غدا صغيرا بعدما كان كبيرا، وبائسا بعدما كان فارها، برغم كل ذلك إلا أن مشهد النهاية الذي يصطحب فيه أمير ابن أخيه حسان إلى أميركا كي يهيئ له حياة كريمة هناك، بينما هو قد غدا روائيا وزوجا لفتاة أفغانية ما كانت لتتزوج لو بقيت في أفغانستان بسبب ارتكابها هفوة أبقتها أميركا في طي النسيان. كل هذا من شأنه أن يصوّر الحل الأميركي بالعصا السحرية التي ستقلب الدم الأفغاني الذي أُهدِر في الحروب المتتالية إلى نبع ذهب دافق، من غير توجيه أي إصبع اتهام لضلوعها في المأساة الأفغانية.