أين الكاذب الملك ...؟؟؟

انشغلت وسائل الإعلام والأوساط السياسية في الأيام الماضية بواقعة اختفاء محمد زهير الصدّيق وهو «الكاذب الملك» في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري والذي قيل إنه غادر مع أفراد أسرته فجأةً الأراضي الفرنسية إلى مكان لا يزال مجهولاً وسط تسريبات ُتشير إلى أنه استقر في إحدى دول الخليج العربي. وكان الصدّيق هو محور المعلومات الكاذبة التي استند إليها ديتليف ميليس في توجيه اتهاماته لسورية وبعض الشخصيات اللبنانية وأفرد له حيزاً واسعاً من تقريره الأوّل عن جريمة الاغتيال عندما زعم أن اجتماعات عقدها قادة الأجهزة الأمنية اللبنانية في منزله في خلدة وتم خلالها «التخطيط» لتنفيذ هذه الجريمة فضلاً عن مشاركته بصورة فعّالة في حضور اجتماعات أخرى على أعلى المستويات للتخطيط للاغتيال بل المراقبة والمتابعة أثناء التنفيذ..!! والكثير من النهفات الأخرى التي لا يصدقها عقل ولا يقبلها منطق إلا إن كان الغرض منها هو فبركة الأدلة وتسييس التحقيق وهو ما أثر كثيراً على مصداقية عمل لجنة التحقيق الدولية وجميع الإجراءات والتدابير المرتبطة بعملها. علماً أن الصحفي الفرنسي جورج مالبرونو كان قد أكد في مقال له ُنشر في صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية أن الصدّيق لا يتمتع بالصدقية وكشف مالبرونو في مقال نشرته الصحيفة تحت عنوان «آل الحريري قد يكونون حركوا الشاهد الأساسي في التحقيق» خفايا التحركات التي جرت حول الصديق ي مناورة تهدف لزج اسم سورية في عملية اغتيال الحريري. وهو نقل عن مصادر مخابراتية ودبلوماسية فرنسية أن استجواب الصدّيق من قبل المخابرات العامة الفرنسية أظهر قلة مصداقيته ليتم تسليمه فيما بعد إلى المخابرات الداخلية الفرنسية التي استجوبته وتوصلت إلى النتيجة نفسها. وخلص إلى نتيجة أن الصدّيق هو مجرد محتال صغير باعتبار أن التحقيق قد بيّن أن أقواله لا تدعمها إثباتات مادية «كالبصمات في منزله »وذلك في إشارة إلى ادعاء الشاهد للجنة التحقيق أنه وضع شقته في خلدة ببيروت تحت تصرف المخططين ومن بينهم كبار المسؤولين في المخابرات السورية.
ورغم ذلك فقد استقر الصدّيق في فرنسا منذ خريف العام 2005 في عهدة المخابرات الفرنسية، التي قامت بحماية الفيلا التي حل فيها برفقة زوجته اللبنانية وابنته وابنه، في بلدة «شاتو» الواقعة على ضفاف السين، إحدى الضواحي الراقية للعاصمة الفرنسية. وبرر الصحفي الفرنسي منحه الإقامة والحماية في فرنسا بأن هذا الأمر قد «أتى حتماً من فوق» بمعنى أنه جاء من الرئيس جاك شيراك شخصياً لأنه كان يرغب في مساعدة عائلة الحريري.
علماً أن الصدّيق كان قد أوقف بالفعل في شهر تشرين الأول 2005 لبعض الوقت، بناء على مذكرة توقيف دولية، وجهتها السلطات اللبنانية إلى فرنسا، لكن محكمة التمييز في «فرساي»، أصدرت في نهاية شباط 2006 حكماً يرفض تسليمه إلى لبنان، بسبب «غياب ضمانة بعدم تطبيق عقوبة الإعدام في لبنان» ومنذ ذلك الوقت بدأ الصدّيق ُيمارس لعبة الابتزاز السياسي والمالي فعندما كانت تقطع أو تتأخر المعونة المالية من الجهات التي كانت تموّله مالياً وتلقنه شهادته الُمفترضة كان الصدّيق ُيسرّب معلومات عن «صحوة ضميره» وعزمه كشف الحقائق والعودة إلى سورية أو مراجعة السفارة السورية بباريس، وهو تسريب كان يدفع الممولين لتلبية طلباته والخضوع لابتزازاته باعتبار أن دوره لم ينته بعد!! لكن الجميع كان ُيدرك أن الصدّيق ُيحرك عن بعد وُيلقن ما هو مطلوب منه أن يكذبه كل صباح لدرجة أن الإعلامي اللبناني مارسيل غانم اضطر في إحدى حلقات برنامجه أن يقطع الحوار الذي كان يجريه مع الصدّيق لأن الأخير لم يجب عن أي سؤال مكتفياً بالقراءة من ورقة بدا واضحاً أنها أعدت له مسبقاً!! ورغم ذلك كان الصدّيق أحد الألغاز المرتبطة بجريمة الحريري وبقيت تساؤلات كثيرة تحيط حول دوره في تزييف الحقائق وتوجيه الاتهامات المضللة لجهة معينة بعيداً عن الفاعل الحقيقي.
وبقي السؤال الأبرز: لماذا لم يتم إلقاء القبض على الصدّيق سواء من فرنسا شيراك أو لجنة التحقيق ذاتها باعتبار أن ما قاله الصديق إما أن يكون كاذباً أو صادقاً.. وهو إن كان كاذباً فقد كان من الواجب توقيفه بتهمة تضليل التحقيق الدولي وإخفاء الفاعل الحقيقي. وإن كان صادقاً فما ذكره يجعل منه شريكاً وفاعلاً أساسياً في جريمة الاغتيال!! لكننا وجدناه رغم ذلك حراً طليقاً يعطي التصريحات ويستدرج الإعلاميين (كما فعل مع فراس حاطوم من محطة الجديد اللبنانية) وينتقل بحرية ما بين ماربيا الإسبانية وبلدة شاتو الفرنسية!!
ولعل السؤال الأهم: هل غادر الصديق بالفعل الأراضي الفرنسية، وهل لذلك علاقة بتطورات التحقيق والمحكمة الدولية؟
تتحدث التسريبات الإعلامية عن أن الصدّيق قد ُنقل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة أو السعودية علماً أن في هذا الأمر مخاطرة كبيرة وإحراجاً شديداً لرعاة الصدّيق لبنانياً وإقليمياً لأن زهير الصدّيق مطلوب بالفعل للسلطات اللبنانية والتي تعذر عليها إلزام فرنسا بتسليمه بذريعة تضمّن القانون اللبناني لعقوبة الإعدام خلافاً للقانون الفرنسي، ولكن هذه الذريعة لن تكون موجودة في حال انتقاله إلى أي دولة عربية أخرى والتي يتعين عليها قبول تسليمه إلى لبنان عملاً باتفاقية الرياض لتسليم المجرمين والتعاون الأمني بين الدول العربية، وهو ما ُيبرر ربما إحاطة الأمر بغموض كبير وسرية فائقة.
مع ملاحظة هنا أن لجنة التحقيق الدولية بدأت بالفعل عملها لوضع برامج لحماية الشهود المحتملين، وهو ما عرضه المحقق الجديد دانييل بلمار في تقريره الذي سيناقشه مجلس الأمن الدولي في الأيام القادمة، وركّز خلاله ضرورة التوصل لصياغة برنامج متفق عليه لحماية الشهود، وهو ما تم النص عليه في الفقرتين 19 و20 وفيهما ُتشير اللجنة إلى أنها «.. طبقت إجراءات لفرض جو تعاون آمن لهؤلاء الأفراد ولحماية المعلومات التي تحصل عليها. كما عززت أنظمتها لحماية المعلومات الحساسة التي يقدمها الشهود والمصادر الأخرى، وطبقت إستراتيجية لحماية الشهود، وهي تتكيف مع متطلبات المحكمة المقبلة..» ما يطرح فرضية أن الصدّيق ربما يكون قد خضع فعلياً لهذا البرنامج وهو ما تطلب التعتيم على مكان وجوده وبث الغموض ونشر الشائعات حول ذلك!!
في مطلق الأحوال يبدو أن الصدّيق قد أصبح عبئاً كبيراً على من استخدمه وموله فأكاذيبه خلال فترة التحقيق لن تنفع في حال المحاكمة، وهو ما دفع ميليس ذاته لأن يطعن في شهادة الصدّيق ويقول أثناء لقائه مع إحدى المحطات اللبنانية مؤخراً إن «الصدّيق لم ُيعتبر يوماً شاهداً ملكاً، ووجدنا في أقواله ما هو غير دقيق» ويبدو أن ميليس كان ُيمهد لمصير ينتظر محمد زهير الصديق، وربما كان الغموض حول غيابه هو إحدى حلقات هذا المصير.