عندما يصبح المجرم قاضياً!

عصام داري *
نريد محكمة دولية حرّة ومحايدة ونزيهة وغير مسيّسة للنظر في جرائم الحرب التي اقترفها ـ ويقترفها ـ الأميركيون والإسرائيليون بحق البشرية، على امتداد العالم: من اليابان شرقاً وحتى جمهوريات الموز والولايات المتحدة نفسها غرباً.

ليس من العدل أن تمر المجازر دون عقاب ويهب العالم بإيعاز من القتلة، للبحث عن قاتل شخص واحد، مهما كانت مكانة هذا الشخص وأهميته بالنسبة لبلده وللعالم أيضاً. ‏

نحزن كثيراً عندما يقتل إنسان في أي مكان على وجه البسيطة، ونطالب ـ كغيرنا من الشعوب ـ بالقصاص وتقديم المجرم للعدالة، لكن عندما تتحوّل جريمة ما إلى وسيلة رخيصة للابتزاز والضغط وتصفية الحسابات والنيل من الدول، فهذه جريمة بحدّ ذاتها تستحقّ العقاب، خاصة إذا جاء هذا الاستغلال من دولة لها سجل حافل في الإجرام والمجازر البشعة التي ذهب ضحيتها ملايين البشر. ‏

فإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش حملت قميص الحريري وتاجرت به على مدى ثلاثة أعوام واستخدمته وسيلة ضغط على سورية، وأداة تقسيم وفتنة، ونشر للفوضى في لبنان، في سياق مشروع إسرائيلي ـ صهيوني معلن على الملأ. ‏

أرادت هذه الإدارة الأميركية أن تكون جريمة اغتيال الحريري «حصان طروادة» الذي يحمل الفتنة إلى الداخل اللبناني، والسيف الذي يسلط على رقبة سورية، والوسيلة لبعثرة الأوراق في المنطقة بما يخدم المشروع الصهيوني. ‏

لا ندعي بأن جريمة اغتيال الحريري عادية فهي من أخطر الجرائم في العالم، ونعرف أن الحرب العالمية الأولى نشبت بسبب جريمة مماثلة، لكن إدارة بوش، وكل المستفيدين من هذه الجريمة، وجدوا فيها الفرصة الذهبية لتحقيق أطماعهم وأهدافهم الخبيثة، متجاهلين عمداً أبسط قواعد وأسس القانون الجنائي وهي: ابحث عن المستفيد من الجريمة، لكن العجيب هذه الأيام أنه في الوقت الذي يطالب فيه المحقق الدولي دانييل برنار التمديد ستة أشهر للجنة التحقيق بجريمة اغتيال الحريري، تخرج علينا الآنسة كوندوليزا رايس بتصريح أمام إحدى لجان الكونغرس لتوجه صراحة الاتهام لسورية! ‏

هل باتت رايس هذه عرّافة تضرب بالرمل وتعرف الغيب وترد المسافر وتشفي المرضى؟! متى كان الاتهام يوجه جزافاً ولمجرد الثأر والكيدية والعداوة المفضوحة، وليس لمجرد الشبهة فقط، دون دليل أولاً، وقبل أن ينتهي التحقيق ثانياً؟! ‏

من حق رايس ـ بصفتها الشخصية حصراً ـ أن تتّهم من تشاء استناداً إلى مواقف سياسية مسبقة تناصب سورية العداء لمجرد أن دمشق ترفض المخططات والسياسات الأميركية والمشاريع الصهيونية، ولكن ليس من حق رايس هذه ـ كوزيرة لخارجية دولة عظمى ـ أن تطلق الأحكام المسبقة في قضية خطيرة، دون دليل أو بيّنة، إلاّ إذا كان الحكم سياسياً ومسبقاً ومبرماً خدمة لما في نفس بوش وتشيني ويعقوب وأولمرت وبقية الجوقة التي وجّهت إصبع الاتهام لسورية منذ اللحظة الأولى لجريمة اغتيال رفيق الحريري. ‏

مثل هذه الاتهامات الباطلة لا تهزنا ولا تعنينا ولا يمكنها أن تخيفنا، فلا يخاف إلاّ المجرمون والقتلة ومغتصبو حقوق الشعوب، ما يهمنا أن إدارة بوش هي آخر من يحق له في العالم البحث عن قتلة الحريري، وآخر من يحق له التباكي على دم الحريري، لأنها إدارة ملطخة أيديها بدم العراقيين والفلسطينيين واللبنانيين والأفغان وغيرهم. ‏

لا يمكن ـ أخلاقياً ـ أن ينصّب القاتل نفسه قاضياً، وأن يتغنى من امتهن استعمار الدول بالسيادة والاستقلال والحرية، ومن يخرق القوانين الدولية أن يتحدّث عن الشرعية والعدالة. ‏

أمام كل ذلك، فإننا نطالب بمحكمة دولية تنظر في قتل أكثر من مئتين وأربعين ألف ياباني قضوا بثانية واحدة عندما ألقى الأميركيون القنبلة الذرية على هيروشيما. ‏

والنظر في قتل أكثر من مليون عراقي خلال خمس سنوات، وقتل الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين والسوريين والليبيين والسودانيين و.. القائمة لا تنتهي. ‏

قامت الولايات المتحدة على أجساد وجماجم سكان أميركا الأصليين «الهنود الحمر» واستمرت على أجساد وجماجم الشعوب من اليابان إلى أوروبا وصولاً إلى شعوب أميركا الجنوبية، فصار لزاماً على كل الشعوب مقاضاة الأميركيين على ما اقترفوه من مجازر على مدى مئات السنين، وها هي إدارة بوش تواصل مسلسل القتل والإجرام دون أن يرفّ لها جفن ودون وازع من أخلاق أو ضمير، ودون رادع أو رقيب، وفي الوقت نفسه تطلق الاتهامات الباطلة ضدّ الأبرياء. ‏

بيت الإدارة الأميركية من زجاج.. فكيف لها أن ترمي الآخرين بالحجارة؟ ‏

باختصار إنها الوقاحة بأعلى درجاتها، وما أخطر الوقاحة عندما تمتلك القوة الضاربة، وتتصف بالعنصرية والاستهتار بالبشر وبحقوق الإنسان وبكل صفات الشرّ والإجرام والإرهاب. ‏

idari@tishreen.news.sy