همسة للدنمارك وهولندا... ولنا!





د. فيصل القاسم
قبل سنوات قليلة لم يكن الإنسان العربي يحمل في مخيلته لهولندا والدنمارك سوى الذكر الطيب ، والانطباعات الجميلة، فعندما كان يُذكر اسم هولندا في الماضي مثلاً كنا نتذكر على الفور حقول وبساتين الأزهار، والورود البديعة، الممتدة على مساحات شاسعة، والمزروعة بطريقة هندسية، لا أحلى ولا أجمل منها، ذلك المنظر الذي يسحر الأبصار بروعته وجماله الفائق، ويربط الهولنديين بأجمل ما أنتجته الطبيعة. لقد ارتبطت صورة هولندا في أذهان الكثير منا بزهرة الزنبق الشهيرة بألوانها الخلابة، وسهولها الخضراء، وحدائقها الغناء، وشعبها المسالم. إنها بلاد فان كوخ الفنان العالمي الذي طالما سحرنا بلوحاته الخالدة، وجعلنا نحلم بزيارة امستردام تلك المدينة الحالمة المبنية فوق الجداول والترع والأنهر الوادعة بطريقة فنية ساحرة عز نظيرها.
 
ولم تكن صورة الدنمارك تقل بهاء وجمالاً في أذهان العرب عن مثيلتها الهولندية. فلم يكن السواد الأعظم منا يعرف عن تلك المملكة الراقية سوى أنها تدلل حتى أبقارها كي تنتج أطيب وألذ أنواع الحليب والزبدة والأجبان، ناهيك عن أنها مشهورة بحسنواتها اللواتي سلبن عقول الشعب المصري كما ظهر في فلم "تجربة دنماركية" لعادل إمام. وهل ننسى أيضاً أن الدنماركيين هم أحفاد رجالات "الفايكنغ" الأسطوريين الذين، رغم نعتهم بالغزاة أحياناً، إلا أنهم دخلوا التاريخ كفاتحين أشداء. ثم كيف ننسى أن جهاز البلوتوث الذي يجتاح عالمنا كاجتياح النار للهشيم هو منتج دانماركي. وقد سماه مخترعه بذلك الاسم نسبة إلى أحد ملوك الدنمارك، هارالد بلوتوث؟
 
هل ما زال الإنسان العربي يحتفظ للدنمارك وهولندا بالصورة التقليدية الجميلة، أم إن رسام الكاريكاتير الدنماركي كورت ويستارجارد والسياسي الهولندي غيرت فيلدرز الأرعنين كادا أن يدمرا تلك الانطباعات الجميلة التي طالما حملها المخيال العربي لتلك المملكتين الرائعتين؟ لقد أصبح اسم الدنمارك في السنتين الماضيتين مرتبطاً في أذهان الكثيرين بكل ما هو سيئ ومسيء. فما أن تذكر اسم الدنمارك هذه الأيام حتى تنهال الشتائم والسباب على الدنماركيين دون تمييز. ولا أبالغ إذ قلت إن سمعة الدنمارك، حكومة وشعباً، غدت في الحضيض، وهي بحاجة لسنوات وسنوات كي تستعيد صورتها البهية في الذهن العربي.
 
وقد روى لي أحد الأصدقاء الذي يعيش في مجمّع يقطنه بعض الأجانب في إحدى الدول العربية قصة معبرة جداً لعل المسؤولين الدنماركيين يتعظون منها. فقد حدث ذات يوم شجار بين طفل دنماركي وآخر أوروبي، فما كان من الأخير إلا أن هدد الطفل الدنماركي بأنه سيخبر الأطفال العرب الذين يعيشون في الحي نفسه بأنه دنماركي كي يهاجموه، أو يقاطعوه، أو يعزلوه. وفعلاً نفذ الطفل الأوروبي تهديده، وأخبر بعض الأطفال العرب بأن هناك بين ظهرانيهم طفلاً دنماركياً ينتمي إلى بلد الرسام الذي أساء للمقدسات الإسلامية. وقد نجح الطفل الأوروبي بتأليب الكثير من الأطفال على الطفل الدنماركي ونبذه. وقد شعر الأخير بالعزلة والحزن، وأصبح يتجنب الذهاب إلى حمام السباحة الذي يرتاده أطفال المجمّع. وبعد تلك الحادثة أصبح أي طفل يريد أن ينتقم من طفل آخر في ذلك المجمّع كان يحتاج فقط لأن يقول للأطفال الآخرين إن غريمه دنماركي. باختصار فقد غدت مفردة "دنماركي" مدعاة للاشمئزاز والاحتقار وحتى الانتقام لدى الكثيرين.
 
صحيح أن هولندا لم تصل بعد إلى ما وصلت إليه الدنمارك من كره في أذهان العرب، لكنها كانت مرشحة لأن تفقد أيضاً صورتها الجميلة القديمة لتغدو محط شجب واستنكار لدى البعض، إن لم نقل عدوة محتملة، لولا أنها كانت أكثر حذراً من الدنمارك. ومن الواضح أن هولندا تنبهت إلى مخاطر التعنت الدنماركي، فتبرأت حكومتها على الفور من غيرت فيلدرز صاحب فلم "فتنة" المسيء للمسلمين، ومنعت عرضه على المواقع الالكترونية الهولندية وتداوله داخل البلاد. وهو موقف محسوب لها، لا بل حري بالإعلام العربي أن يميز بين الموقفين الدنماركي والهولندي من الإساءات الموجهة للمسلمين، فبينما أمنت أجهزة الأمن الدنماركية حماية ورعاية خاصتين لرسام الكاريكاتير، وقامت باعتقال بعض المسلمين المشتبه في محاول اغتيال الرسام، لا بل هددت بطرد ألوف العرب والمسلمين الذين احتجوا على نشر الرسوم المسيئة في الصحف الدنماركية، ورفضت الاعتذار، استبق الهولنديون بث الفلم المسيء ليقولوا للعالم إنهم بريئون منه تماماً. وبالتالي يجب التمييز بين هولندا والدنمارك في هذا الخصوص.
 
لا شك أن من حق الدنماركيين والهولنديين أن يتشدقوا بحرية التعبير في بلديهما. لكن الأمر بحاجة لنوع من الروية والتعقل والحسابات الدقيقة وعدم الاندفاع الأعمى وراء بعض الشعارات الديمقراطية الجوفاء التي يطبقونها على ناس وناس. فما فائدة حرية التعبير إذا كانت ستحول المملكة الدنماركية حكومة وشعباً وحضارة وثقافة إلى عدو مبين في نظر العرب والمسلمين؟ أيهما أهم للدنمارك من الناحية العملية السماح للرسام بالتعبير عن وجهة نظره الخرقاء، أم التصالح مع أكثر من مليار مسلم حضارياً وتجارياً؟ لا أعتقد أن التعنت الدنماركي مفيد في هذه الحالة، ولا بد من التوفيق بين حرية التعبير المزعومة والمصالح مع الشعوب الأخرى، خاصة وأنه لا صوت يعلو فوق صوت المصلحة في الأعراف الاقتصادية الغربية.
 
لا أدري كيف يضحي بلد غربي بعلاقاته بملايين البشر من أجل عيون بعض المسيئين المأفونين كالرسام الدنماركي! قد يقولون لنا إن حرية التعبير بالنسبة لهم أقدس الأقداس. وقد يتفق معهم البعض في ذلك، لكن ألم تعلمنا الديمقراطية الغربية نفسها بأن "حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين"؟ ألا تـنتهي حرية الرسام عندما تبدأ حرية الآخرين، وحرية الآخرين هنا تكمن في عدم العبث بعقيدتهم ومقدساتهم، فهل يريد هذا الرسام أو ذاك أن يستمتع بحريته هو فقط، ويحرم الآخرين منها؟
 
لا تدعوا أيها الدنماركيون صورة ذلك الرسام القبيح تحل محل صورة مملكتكم الأنيقة في مخيلتنا! وأنتم أيها الهولنديون: صدقوني أن منظر زنبقكم الأصفر والأحمر أجمل ألف مرة من شكل غيرت فيلدرز، فلا تجعلوا الأخير يحل رمزاً جديداً في أذهان العرب والمسلمين محل أزهاركم البهية!
 
أما أنتم أيها العرب والمسلمون فمن حقكم أن تهبـّوا للدفاع عن مقدساتكم، لكن يجب أيضاً أن لا تعاقبوا شعباً بأكمله كالشعبين الدنماركي والهولندي بجريرة رسام سخيف أو سياسي مهووس. فمن الخطأ الشديد أن نحارب دولة بسبب شخص. فهل يعقل أن نعامل الدنماركيين والهولنديين كأعداء بالجملة لمجرد أن نفرين منهم أساءا إلينا؟ متى نعمل بالنصيحة القرآنية الذهبية " ولا تزر وازرة وزر أخرى" التي نرددها كثيراً، ولا نطبـّقها أبداً؟ كيف يختلف الذين يريدون معاقبة الدنمارك عن بكرة أبيها عن أجهزة الأمن العربية التي تعاقب عائلة، إن لم نقل مناطق بأكملها، وتجعل أعلاها سافلها، لمجرد أن أحد أفرادها عارض النظام الحاكم؟ لا تنه عن خـُلقٍ وتأتي بمثله... عار عليك إذا فعلت عظيم!