صبي سيطرت عليه نزعة التمرد فصار شاعراً

محمد قاسم الخليل
عشر سنوات مرت على رحيله ولايزال نزار قباني حالة إشكالية في شخصيته وشعره, وقد تناول كثيرون جوانب من شعره, فصدرت مئات الكتب وآلاف الدراسات والبحوث,ولايزال حتى يومنا هذا موضع دراسة وعناية النقاد والباحثين,

ولذلك نقع في حيرة ونحن في حضرة الشاعر بمناسبة ذكرى وفاته, عن أي جانب نتحدث عنه, وقد نتساءل هل طرق هذا الجانب أم لا! ثم قلنا لايهم فمن الممكن أن تكون لكل رؤيته المستقلة, ومن هنا رغبنا أن نتحدث بما تتيحه العجالة الصحفية عن شخصية شغلتنا زمناً طويلاً ولاتزال حتى الآن شاغلة الناس.‏

وأرى أن سمة التمرد تبدو الأكثر التصاقاً في شخصية نزار وشعره, هناك شعراء متمردون كثر , لكن قلة منهم يتركون بصمة مؤثرة في التاريخ الأدبي, ونزار في عصرنا الراهن يبدو واحداً من أبرز المتمردين.‏

والتمرد عند نزار كان على الجانبين الشخصي والشعري, وفي الوقت ذاته اتخذ عدة مسارب في كل جانب, وكل هذه الفروع المتمردة تنبع من عين واحدة هي فكره الصلب وخياله الخصب يجملها أسلوبه العذب.‏

لقد أراد نزار أن يكون صدامياً متمرداً منذ إطلالته الأولى ورغم معرفته وإدراكه لعواقب الأمور إلا أنه أصر , ونزل إلى المعركة لأنه مؤمن بانتصاره الفردي الصحيح حسب رؤيته على المجموع السائر المتستر وربما كان كثيرون يحملون ذات الأفكار, ولكن أهمية نزار أنه أعلنها مدوية أمام من يدفنون الحقيقة في الرمال, وبهذا كان له فضل الريادة والقيادة , فتبعه كثيرون لكنهم لم يستطيعوا أن يحققوا ما حققه نزار, لأنه كان أول المبدعين في وقت كان فيه الآخرون متبعين, وكان جريئاً وكانوا خائفين مترددين.‏

ويشرح نزار هذه الناحية فيقول:‏

(أنا شاعر أريد أن أغير وحين أواجه عصراً لايريد أن يتغير أصطدم, لأن الشعر سلوك صدامي, إن القناعات القديمة عبارة عن أوثان وأنا أريد أن أحطم الأوثان).‏

وبهذا نرى أن شاعرنا أدرك أن المجتمع العربي مجتمع تسيطر عليه ذهنية الماضي ,ذهنية ترفض التطور والانفتاح على الحياة الجديدة والتعبير والكتابة, وتقيده بأفكار وأنماط لم يشارك هو في إبداعها, وهو لم ينطلق بما يمكن أن نسميه خالف تعرف, بل واجه رفض المجتمع المنغلق بعوامه ومثقفيه وانتقى حالة رفض الرفض.‏

تمرد نزار على المجتمع في وصف الحالة الأنثوية ونظرة الشاعر إلى الجمال الأنثوي وفك قيود الكبت ليقولها على الملأ , ويعلن العلاقة المخبأة في قعر الذات فنطق بلسان الذكر مرة وبلسان الأنثى مرات ومرات .‏

والتمرد الشعري أخذ عدة مناح أيضا , تمرد في صياغة الجملة , لتكون أكثر بساطة وسهولة, مع رسم صورة شعرية تتسم بخيال جامح خصب , وهو أول شاعر فصحى يستخدم مفردات عامية في شعره وبشكل محبب, فدمج العامية في الفصحى ,وفصحن اللفظة العامية لتشكل مع الفصحى جملة عذبة أضفى عليها الشاعر نكهته الخاصة .‏

ويشرح نزار هذه النقطة في حوار صحفي ويسميها الحل في الاعتماد على لغة ثالثة فيقول : (وكان الحل هو اعتماد لغة ثالثة تأخذ من اللغة الأكاديمية منطقها وحكمتها ورصانتها .. ومن اللغة العامية حرارتها وشجاعتها وفتوحاتها الجريئة ..وبهذه اللغة الثالثة نحن نكتب اليوم , وعلى هذه اللغة الثالثة يعتمد الشعر العربي الحديث في التعبير عن نفسه دون أن يكون خارجا عن التاريخ ولا سجينا في زنزانته ) .‏

وبهذا الحل سبق نزار كل الشعراء الذين انضووا تحت ما يسمى مدرسة الحداثة فكان أستاذا في مدرسة لم يرتفع بنيانها في وقته .‏

وتبدو العامية المحببة يسردها دون أن يحس القارئ أنها العامية ومثالها‏

قلبي كمنفضة الرماد .. أنا إن تنبشي ما فيه تحترقي‏

كما يمكن أن نضع في هذا الجانب صوره الشعرية التي تحمل تعقيدا معنويا , ومن ذلك قوله:‏

إن النبيذ هنا نار معطرة‏

فهل عيون نساء الشام أقداح‏

مآذن الشام تبكي إذ تعانقني‏

وللمآذن كالأشجار أرواح‏

لنلاحظ هنا أن النار المعرفة بلهيبها الحرق تبدو جميلة معطرة عند الشاعر وأن المآذن الحجرية تعانقه ولها روح .‏

أما التمرد على المجتمع والتقاليد فيمكن أن نعيده إلى الطفولة التي تشكل أولى مفاتيح شخصيته , وحسب علم النفس التربوي تبدأ في هذه المرحلة الصفات السلوكية الموروثة بالظهور ومن ثم الصفات المكتسبة ليشكلا معا الشخصية الإنسانية .‏

وللتعرف على حال هذه الصفات نقرأ في سيرته أنه الابن الثاني بين أخوة أربعة , وكان مدلل أمه التي أرضعته حتى سن السابعة , وكان طفلا مشاغبا لايحب أن يرى الأشياء ثابتة وأحرق نفسه مرة , وقفز مرة من الطابق , وعلى هذا النمط من التفكير والسلوك نشأ نزار ليحمله إلى نتاجه الشعري ومواجهة المجتمع بالجديد / وعندما أصدر نزار قباني ابن العشرين عاما مجموعته الشعرية الأولى ( قالت لي السمراء ) عام 1944 قامت القيامة من حوله , وما حدث يعتبر امتدادا لما قام به نزار أيام طفولته ومراهقته , ومنذ رحلته الأولى وإلى رحلته الأخيرة , أكد نزار انسجامه مع نفسه وأفكاره عبر ما يزيد على خمس وثلاثين مجموعة شعرية.‏