انكسار المشروع الامبراطوري

 د. رفعت سيد أحمد*
لا يستطيع مراقب محايد للمشهد السياسي والاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط بعد خمس سنوات على الغزو الأميركي للعراق, إلا أن يقر بحقيقة باتت ظاهرة للعيان, وهي أن مشروع أمريكا في هذه المنطقة من العالم قد هُزم, بل إن مشروع بناء إمبراطورية مهيمنة على عالمنا المعاصر

قد تم دق أكبر مسمار في نعشه في بغداد التي تنزف دماً, وإن الدليل على ذلك هو حجم ونوع الخسائر الأمريكية في العراق, قرابة خمسة آلاف جندي أميركي فضلاً عن نحو عشرة آلاف مرتزق بالإضافة إلى أربعة آلاف مليار دولار تكبدتها الخزانة الأميركية كتكاليف حربية مباشرة, مع عدم تحقق الأهداف الاستراتيجية للغزو وفقاً لما أعلنوه في بدايات الحرب عام .2003‏

إن التمدد الأميركي الاستراتيجي الزائد على القدرة المادية, وفتح أكثر من جبهة في توقيت واحد, جبهة أفغانستان والعراق مع جبهات أخرى عالمية يصل عددها إلى 15 جبهة, وإن بأحجام عسكرية أقل, أدى إلى انكسار المشروع الامبراطوري الأميركي, وذلك من سنن نشأة الدول العظمى وانهيارها, إنه قانون التاريخ والذي لخصه قبل سنوات العالم الأميركي المعروف بول كيندي في كتابه الأشهر (صعود وهبوط القوى العظمى), بأن بدايات انهيار تلك الدول العظمى هو التمدد الاستراتيجي الزائد على القدرة السياسية والاقتصادية, مع تزايد الإنفاق على المشاريع التوسعية دون إمكانيات تعويض, إننا أمام القانون وقد تم تطبيقه نصاً على واشنطن ومن ثم هي بدأت في الانهيار, صحيح هي لن تنهار بين ليلة وضحاها لأنها دولة عظمى بل هي الدولة الأعظم ولكن بدايات الانهيار بدأت, وعلامات البداية أتت من بغداد, وساعدتها بيروت في حرب الصيف 2006 في تأكيد تلك البدايات لتفكك المشروع الإمبريالي الأميركي.‏

وفي كتابه المنشور حديثاً والمعنون بحرب الثلاثة تريليونات لجوزيف ستيجليتز الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام ,2001 وليندا بيلمز المحاضرة في مدرسة كيندي الحكومية بهارفارد, ورد تقرير نشرت صحيفة تايمز البريطانية ملخصا له قال: إن تكاليف العمليات العسكرية الأميركية المباشرة (لا تشمل التكاليف على المدى البعيد كالعناية بالجرحى من الجنود) فاقت تكلفة حرب فيتنام وزادت على ضعف تكاليف الحرب الكورية.‏

وحتى لو اعتمدنا أحسن السيناريوهات فإن هذه التكاليف يتوقع أن تصل إلى عشرة أضعاف تكاليف حرب الخليج الأولى وضعفي تكاليف الحرب العالمية الأولى.‏

والحرب الوحيدة في التاريخ الحديث التي كلفت أكثر من هذه الحرب هي الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها 16 مليونا و300 ألف جندي أميركي قاتلوا لمدة أربع سنوات وكلفت بالدولار الأميركي بعد تكييف قيمته مع التضخم 2007 خمسة آلاف مليار دولار.‏

ورغم أن كل القوات الأميركية آنذاك كانت فعليا منهمكة في قتال اليابانيين والألمان, فإن تكلفة الوحدة العسكرية لو حسبت بقيمة الدولار اليوم لكانت 100 ألف دولار بينما تكلف الوحدة الآن 400 ألف دولار في العراق.‏

ولم يحس الأميركيون حتى الآن بهذه التكاليف إذ إن الثمن بالدم دفعه الجنود المتطوعون والمقاولون المؤجرون, أما الثمن المادي فقد مُوّل بالكامل عبر الاقتراض.‏

ولم ترفع نسب الضرائب بل خفضت الضرائب على الأغنياء, لكن الواقع هو أن تكاليف الحرب أمر حقيقي حتى لو جرى تأجيل دفعها ربما لجيل آخر.‏

ومع بدء السنة الخامسة للحرب على العراق يتوقع أن تصل تكاليف الحرب في نهاية العام 2008 إلى 12.5 مليار دولار شهريا في العراق وحده, ولو أضفنا أفغانستان يكون المبلغ 16 مليار دولار, وهو ما يعادل الميزانية السنوية للأمم المتحدة وميزانية كل الولايات المتحدة ما عدا 13 منها.‏

ورغم ذلك فإن هذا المبلغ لا يشمل 500 مليار دولار تمثل النفقات السنوية لوزارة الدفاع, كما لا يشمل النفقات الخفية كالتي تصرف على جمع المعلومات الاستخبارية أو المبالغ التي تختلط مع ميزانيات الوزارات الأخرى.‏

ولأن هناك تكاليف كثيرة لا تعدها الإدارة الأميركية, فإن التكلفة الإجمالية للحرب أكثر مما تظهره الأرقام الرسمية.‏

ويعزى ذلك إلى أربعة أسباب هي: التوسع في حق توجيه الضربات الاستباقية بما يتيح لأميركا التدخل أينما ووقتما تشاء, واختلال التوزيع العالمي للقوة بما يغري الولايات المتحدة أن تخوض مزيداً من مغامرات استخدام القوة, والإدراك الخاطئ والمبالغة في استخدام القوة التقليدية لمواجهة الدول الضعيفة والمنظمات ذات الهياكل المعقدة والمتشابكة, وأخيراً, افتقار إدارة بوش إلى الكفاءة في استخدام القوة, فضلاً عن افتقارها إلى أي مبدأ أو استراتيجية ملزمة تستند إليها.‏

ويرجع الأمر إلى أربعة أخطاء رئيسية ارتكبتها إدارة بوش.‏

الأول, إن مبدأ حق توجيه الضربات الاستباقية, الذي نشأ استجابة لهجمات ,2001 قد توسع بصورة غير ملائمة بحيث شمل العراق والدول المارقة كما تطلق عليها الإدارة الأميركية التي هددت بتصنيع أسلحة الدمار الشامل.‏

مما لا شك فيه أن الوقاية أمر مسوغ تماماً في مواجهة الإرهابيين الذين لا دولة لهم والذين يحاولون تدبير الحصول على مثل هذه الأسلحة. ولكن ليس من الجائز أن يتحول هذا المبدأ إلى المحور الذي تدور حوله سياسة منع الانتشار النووي, وأن تسمح الولايات المتحدة لنفسها بموجبه بالتدخل عسكرياً في كل مكان بدعوى منع تطوير أو تصنيع الأسلحة النووية.‏

والمسألة ببساطة, أن التكاليف المترتبة على مثل هذه السياسة باهظة للغاية, مئات المليارات من الدولارات وعشرات الألوف من الخسائر في الأرواح في العراق, وما زالت الأرقام في تصاعد. وهذا هو السبب الذي جعل إدارة بوش تحجم عن الدخول في مواجهة عسكرية مع كوريا الشمالية وإيران, على الرغم من تمجيدها للضربة الجوية التي نفذتها إسرائيل في العراق ضد مفاعل Osirak أو تموز كما أطلق عليه العراقيون في عام ,1981 والتي تسببت في تراجع برنامج صدّام حسين النووي أعواما عدة إلى الخلف. إلا أن نجاح هذه الضربة في حد ذاته أصبح يعني استحالة تكرار مثل هذا التدخل المحدود, وذلك بعد أن تعلم الراغبون في اقتناء مثل هذه الأسلحة كيفية دفن وإخفاء برامجهم الوليدة لتصنيع الأسلحة, وإنتاج أكثر من نسخة منها.‏

أما الخطأ الثاني في الحسابات من وجهة نظر فوكوياما, فإنه يرتبط بردود الأفعال العالمية المحتملة إزاء ممارسة الولايات المتحدة لقوتها المهيمنة. حيث كان العديد من المسؤولين داخل إدارة بوش يعتقدون أن الاستخدام الناجح للقوة الأمريكية من شأنه أن يضفي عليها الشرعية حتى دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو منظمة حلف شمال الأطلنطي. كان هذا هو النمط الذي تبنته الولايات المتحدة في العديد من مبادراتها أثناء الحرب الباردة, وفي البلقان أثناء فترة التسعينيات, وآنذاك كان ذلك النمط يعرف ب (الزعامة) بدلاً من (الأحادية).‏

أما الخطأ الثالث من وجهة نظر فوكوياما الذي ارتكبته أمريكا فهو المبالغة في تقدير مدى نجاح القوة العسكرية التقليدية في التعامل مع الدول الضعيفة والمنظمات المتشعبة المتشابكة التي أصبحت السمة المميزة للسياسة الدولية, على الأقل في الشرق الأوسط الكبير. والحقيقة أن الأمر يستحق أن نتأمل ونتساءل ما السبب وراء عجز الدولة التي تمتلك هذه القوة العسكرية التي لم يسبق لغيرها من الدول أن امتلكتها طوال التاريخ البشري? ورغم إنفاقها على آلتها العسكرية بمقدار ما تنفقه بقية بلدان العالم مجتمعة, عن جلب الأمن إلى بلد صغير تعداد سكانه 24 مليون نسمة بعد ما يزيد على الأعوام الخمسة من الاحتلال. إن جزءاً من المشكلة على الأقل يرجع إلى تعاملها مع قوى اجتماعية معقدة غير منظمة أو خاضعة لإطار قوة مركزية حاكمة قادرة على فرض القواعد عليها حيث يمكن ردعها, أو قهرها, أو التعامل معها من خلال القوة التقليدية.‏

أما الخطأ الرابع من وجهة نظر فوكوياما فيتلخص في أن استخدام إدارة بوش للقوة يفتقر إلى الكفاءة, فضلاً عن افتقارها إلى أي مبدأ أو استراتيجية ملزمة تستند إليها. ففي العراق وحدها, أساءت الإدارة تقدير تهديد أسلحة الدمار الشامل, وأخفقت في التخطيط على النحو الملائم للاحتلال, ثم أثبتت عجزها التام في التأقلم السريع حين ساءت الأمور. وحتى يومنا هذا أخفقت الإدارة الأميركية في معالجة قضايا مباشرة في العراق, مثل تمويل الجهود الرامية إلى الترويج للديمقراطية.‏

إن هذا العجز في التنفيذ لابد أن تترتب عليه عواقب استراتيجية وخيمة, يقول فوكوياما ثم يستطرد متعجباً : والعجيب أن العديد من الأصوات التي كانت تنادي بالتدخل العسكري في العراق حتى آلت الأمور إلى ما نراه اليوم, تنادي الآن بالتدخل العسكري في إيران. ما الذي قد يجعل أي عاقل في العالم يتصور أن الصراع مع عدو أضخم وأشد عزيمة من العراق قد يدار على نحو أكثر كفاءة?‏

قد تم دق أكبر مسمار في نعشه في بغداد التي تنزف دماً, وإن الدليل على ذلك هو حجم ونوع الخسائر الأمريكية في العراق, قرابة خمسة آلاف جندي أميركي فضلاً عن نحو عشرة آلاف مرتزق بالإضافة إلى أربعة آلاف مليار دولار تكبدتها الخزانة الأميركية كتكاليف حربية مباشرة, مع عدم تحقق الأهداف الاستراتيجية للغزو وفقاً لما أعلنوه في بدايات الحرب عام .2003‏

إن التمدد الأميركي الاستراتيجي الزائد على القدرة المادية, وفتح أكثر من جبهة في توقيت واحد, جبهة أفغانستان والعراق مع جبهات أخرى عالمية يصل عددها إلى 15 جبهة, وإن بأحجام عسكرية أقل, أدى إلى انكسار المشروع الامبراطوري الأميركي, وذلك من سنن نشأة الدول العظمى وانهيارها, إنه قانون التاريخ والذي لخصه قبل سنوات العالم الأميركي المعروف بول كيندي في كتابه الأشهر (صعود وهبوط القوى العظمى), بأن بدايات انهيار تلك الدول العظمى هو التمدد الاستراتيجي الزائد على القدرة السياسية والاقتصادية, مع تزايد الإنفاق على المشاريع التوسعية دون إمكانيات تعويض, إننا أمام القانون وقد تم تطبيقه نصاً على واشنطن ومن ثم هي بدأت في الانهيار, صحيح هي لن تنهار بين ليلة وضحاها لأنها دولة عظمى بل هي الدولة الأعظم ولكن بدايات الانهيار بدأت, وعلامات البداية أتت من بغداد, وساعدتها بيروت في حرب الصيف 2006 في تأكيد تلك البدايات لتفكك المشروع الإمبريالي الأميركي.‏

وفي كتابه المنشور حديثاً والمعنون بحرب الثلاثة تريليونات لجوزيف ستيجليتز الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام ,2001 وليندا بيلمز المحاضرة في مدرسة كيندي الحكومية بهارفارد, ورد تقرير نشرت صحيفة تايمز البريطانية ملخصا له قال: إن تكاليف العمليات العسكرية الأميركية المباشرة (لا تشمل التكاليف على المدى البعيد كالعناية بالجرحى من الجنود) فاقت تكلفة حرب فيتنام وزادت على ضعف تكاليف الحرب الكورية.‏

وحتى لو اعتمدنا أحسن السيناريوهات فإن هذه التكاليف يتوقع أن تصل إلى عشرة أضعاف تكاليف حرب الخليج الأولى وضعفي تكاليف الحرب العالمية الأولى.‏

والحرب الوحيدة في التاريخ الحديث التي كلفت أكثر من هذه الحرب هي الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها 16 مليونا و300 ألف جندي أميركي قاتلوا لمدة أربع سنوات وكلفت بالدولار الأميركي بعد تكييف قيمته مع التضخم 2007 خمسة آلاف مليار دولار.‏

ورغم أن كل القوات الأميركية آنذاك كانت فعليا منهمكة في قتال اليابانيين والألمان, فإن تكلفة الوحدة العسكرية لو حسبت بقيمة الدولار اليوم لكانت 100 ألف دولار بينما تكلف الوحدة الآن 400 ألف دولار في العراق.‏

ولم يحس الأميركيون حتى الآن بهذه التكاليف إذ إن الثمن بالدم دفعه الجنود المتطوعون والمقاولون المؤجرون, أما الثمن المادي فقد مُوّل بالكامل عبر الاقتراض.‏

ولم ترفع نسب الضرائب بل خفضت الضرائب على الأغنياء, لكن الواقع هو أن تكاليف الحرب أمر حقيقي حتى لو جرى تأجيل دفعها ربما لجيل آخر.‏

ومع بدء السنة الخامسة للحرب على العراق يتوقع أن تصل تكاليف الحرب في نهاية العام 2008 إلى 12.5 مليار دولار شهريا في العراق وحده, ولو أضفنا أفغانستان يكون المبلغ 16 مليار دولار, وهو ما يعادل الميزانية السنوية للأمم المتحدة وميزانية كل الولايات المتحدة ما عدا 13 منها.‏

ورغم ذلك فإن هذا المبلغ لا يشمل 500 مليار دولار تمثل النفقات السنوية لوزارة الدفاع, كما لا يشمل النفقات الخفية كالتي تصرف على جمع المعلومات الاستخبارية أو المبالغ التي تختلط مع ميزانيات الوزارات الأخرى.‏

ولأن هناك تكاليف كثيرة لا تعدها الإدارة الأميركية, فإن التكلفة الإجمالية للحرب أكثر مما تظهره الأرقام الرسمية.‏

ويعزى ذلك إلى أربعة أسباب هي: التوسع في حق توجيه الضربات الاستباقية بما يتيح لأميركا التدخل أينما ووقتما تشاء, واختلال التوزيع العالمي للقوة بما يغري الولايات المتحدة أن تخوض مزيداً من مغامرات استخدام القوة, والإدراك الخاطئ والمبالغة في استخدام القوة التقليدية لمواجهة الدول الضعيفة والمنظمات ذات الهياكل المعقدة والمتشابكة, وأخيراً, افتقار إدارة بوش إلى الكفاءة في استخدام القوة, فضلاً عن افتقارها إلى أي مبدأ أو استراتيجية ملزمة تستند إليها.‏

ويرجع الأمر إلى أربعة أخطاء رئيسية ارتكبتها إدارة بوش.‏

الأول, إن مبدأ حق توجيه الضربات الاستباقية, الذي نشأ استجابة لهجمات ,2001 قد توسع بصورة غير ملائمة بحيث شمل العراق والدول المارقة كما تطلق عليها الإدارة الأميركية التي هددت بتصنيع أسلحة الدمار الشامل.‏

مما لا شك فيه أن الوقاية أمر مسوغ تماماً في مواجهة الإرهابيين الذين لا دولة لهم والذين يحاولون تدبير الحصول على مثل هذه الأسلحة. ولكن ليس من الجائز أن يتحول هذا المبدأ إلى المحور الذي تدور حوله سياسة منع الانتشار النووي, وأن تسمح الولايات المتحدة لنفسها بموجبه بالتدخل عسكرياً في كل مكان بدعوى منع تطوير أو تصنيع الأسلحة النووية.‏

والمسألة ببساطة, أن التكاليف المترتبة على مثل هذه السياسة باهظة للغاية, مئات المليارات من الدولارات وعشرات الألوف من الخسائر في الأرواح في العراق, وما زالت الأرقام في تصاعد. وهذا هو السبب الذي جعل إدارة بوش تحجم عن الدخول في مواجهة عسكرية مع كوريا الشمالية وإيران, على الرغم من تمجيدها للضربة الجوية التي نفذتها إسرائيل في العراق ضد مفاعل Osirak أو تموز كما أطلق عليه العراقيون في عام ,1981 والتي تسببت في تراجع برنامج صدّام حسين النووي أعواما عدة إلى الخلف. إلا أن نجاح هذه الضربة في حد ذاته أصبح يعني استحالة تكرار مثل هذا التدخل المحدود, وذلك بعد أن تعلم الراغبون في اقتناء مثل هذه الأسلحة كيفية دفن وإخفاء برامجهم الوليدة لتصنيع الأسلحة, وإنتاج أكثر من نسخة منها.‏

أما الخطأ الثاني في الحسابات من وجهة نظر فوكوياما, فإنه يرتبط بردود الأفعال العالمية المحتملة إزاء ممارسة الولايات المتحدة لقوتها المهيمنة. حيث كان العديد من المسؤولين داخل إدارة بوش يعتقدون أن الاستخدام الناجح للقوة الأمريكية من شأنه أن يضفي عليها الشرعية حتى دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو منظمة حلف شمال الأطلنطي. كان هذا هو النمط الذي تبنته الولايات المتحدة في العديد من مبادراتها أثناء الحرب الباردة, وفي البلقان أثناء فترة التسعينيات, وآنذاك كان ذلك النمط يعرف ب (الزعامة) بدلاً من (الأحادية).‏

أما الخطأ الثالث من وجهة نظر فوكوياما الذي ارتكبته أمريكا فهو المبالغة في تقدير مدى نجاح القوة العسكرية التقليدية في التعامل مع الدول الضعيفة والمنظمات المتشعبة المتشابكة التي أصبحت السمة المميزة للسياسة الدولية, على الأقل في الشرق الأوسط الكبير. والحقيقة أن الأمر يستحق أن نتأمل ونتساءل ما السبب وراء عجز الدولة التي تمتلك هذه القوة العسكرية التي لم يسبق لغيرها من الدول أن امتلكتها طوال التاريخ البشري? ورغم إنفاقها على آلتها العسكرية بمقدار ما تنفقه بقية بلدان العالم مجتمعة, عن جلب الأمن إلى بلد صغير تعداد سكانه 24 مليون نسمة بعد ما يزيد على الأعوام الخمسة من الاحتلال. إن جزءاً من المشكلة على الأقل يرجع إلى تعاملها مع قوى اجتماعية معقدة غير منظمة أو خاضعة لإطار قوة مركزية حاكمة قادرة على فرض القواعد عليها حيث يمكن ردعها, أو قهرها, أو التعامل معها من خلال القوة التقليدية.‏

أما الخطأ الرابع من وجهة نظر فوكوياما فيتلخص في أن استخدام إدارة بوش للقوة يفتقر إلى الكفاءة, فضلاً عن افتقارها إلى أي مبدأ أو استراتيجية ملزمة تستند إليها. ففي العراق وحدها, أساءت الإدارة تقدير تهديد أسلحة الدمار الشامل, وأخفقت في التخطيط على النحو الملائم للاحتلال, ثم أثبتت عجزها التام في التأقلم السريع حين ساءت الأمور. وحتى يومنا هذا أخفقت الإدارة الأميركية في معالجة قضايا مباشرة في العراق, مثل تمويل الجهود الرامية إلى الترويج للديمقراطية.‏

إن هذا العجز في التنفيذ لابد أن تترتب عليه عواقب استراتيجية وخيمة, يقول فوكوياما ثم يستطرد متعجباً : والعجيب أن العديد من الأصوات التي كانت تنادي بالتدخل العسكري في العراق حتى آلت الأمور إلى ما نراه اليوم, تنادي الآن بالتدخل العسكري في إيران. ما الذي قد يجعل أي عاقل في العالم يتصور أن الصراع مع عدو أضخم وأشد عزيمة من العراق قد يدار على نحو أكثر كفاءة?‏