تحليل ما حدث ويحدث في العراق سيكولوجيا



يتحدث قاسم حسين صالح في دراسته القيمة والممتعة عما طرأ على المجتمع العراقي في محنه المتتالية بلغة العلم وبنزعة ادبية وسياسية ساخرة بما يجعلها فيضا من المرارة والاسى اقرب في بعض الاحيان الى الضحك من شدة البكاء.
 
يتحدث الدكتور قاسم حسين صالح رئيس الجمعية النفسية العراقية عما اسماه "ثقافة الاحتماء" وعما اسماه تطورا سيكولوجيا خطيرا اذ صار هناك شعور بالانتماء "الى المصدر او القوة التي تحمي الفرد وتعطل الشعور بالانتماء الى العراق."
 
اضاف ان مما سهل على العراقيين التخلي عن انتماءاتهم الى العراق "هو ان النظام السابق ساوى في الانتماء بين العراق-الوطن ورئيس النظام.. "صدام حسين هو العراق." وتثقف الناس على مدى ربع قرن عبر قنواته الاعلامية ومؤسساته التربوية والكوادر الحزبية بهذه المعادلة."
 
ومضى يقول في الفصل الاول من الكتاب والذي جاء تحت عنوان "تحليل سيكولوجي لحالة الثقافة والمثقف" وفي مزيج من التحليل السياسي والاجتماعي والنفسي انه عندما سقط رئيس النظام "انهارت تلك المعادلة نفسيا فتوزع ال 27 مليون عراقي الى ما يزيد على المليون انتماء وصاروا امام واقع نفسي جديد هو ان الولاءات المتعددة في المجتمع الواحد الذي ينهار فيه انتماؤه الذي يوحده طوعا او قسرا لابد ان تتصارع فيما بينها على السلطة حين لم يعد هناك دولة او نظام."
 
وقال "مع ان العراقيين او معظمهم كانوا مضطرين لا مختارين الى اللجوء الى جماعة او قوة تحميهم بعد سقوط خيمة الدولة التي كانوا يشعرون فيها بالامان مدفوعين "بسيكولوجية الاحتماء" من خطر يتصاعد فيحاصرهم او تهديد بخطر مستقبلي يتوقعونه بيقين فإن تأسيس "مجلس الحكم" كرس رسميا حالة تعدد الولاءات الى طوائف وأديان وأعراق وتكتلات.. على حساب الانتماء الى العراق."
 
وخلص الى القول انه من هنا "نشأ تحول سيكولوجي جديد لدى الناس. فبعد ان اطيح بالدولة (وليس النظام فقط) وافتقدوا الامان ودفعهم الخوف الى قوة تحميهم "العشيرة بشكل خاص...اكثر الولاءات تخلفا" بدأ مجلس الحكم يأخذ في وعيهم انه الوسيلة الى السلطة.. ثم الدولة. فتقدمت لديهم سيكولوجية "الحاجة الى السيطرة" التي تؤمن لهم بالتبعية "الحاجة الى البقاء"."
 
كتاب الدكتور قاسم حسين صالح الذي حمل عنوان "المجتمع العراقي - تحليل سيكولوجي لما حدث ويحدث " جاء في 223 صفحة كبيرة القطع موزعة على ثلاثة اقسام وصدر عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" و"المجلس العراقي للثقافة".
 
وتحت عنوان آخر هو "السياسة.. والبارانويا.. والبرلمان" يقول الباحث في ما يبدو مزيجا من الخطاب السياسي والوجداني والنفسي " المحنة التي فيها العراقيون ان قادتهم السياسيين من "الافندية" و" المعممين" فرقاء مصابون "بالبارانويا".. كل فريق منهم يشك بالاخر ويعتقد انه يتآمر عليه لانهائه حتى وصل بهم الحال الى رفع شعار "لأتغدى بصاحبي قبل ان يتعشى بي" فتغدى الجميع بالجميع بوجبات من البشر تعدت المائة ضحية باليوم ودفعهم هوسهم الى الإيغال بأيهم يقتل اكثر وأيهم يتفنن بأساليب غير مسبوقة في بشاعة القتل والتعذيب."
 
ويستخلص من ذلك نتائج منها ما جاء في قوله "وبوصفنا سيكولوجيين ولسنا سياسيين.. والسياسة تعني فن ادارة شؤون الناس بما يريحهم لا بما يضنيهم فاننا نقول ان البارانويا السياسية اذا طبخت على نار الطائفية والعرقية صار شفاء اصحابها قريبا من المستحيل بينما اتفاقهم هو المستحيل بعينه...
 
"والمشكلة ان البارانويا السياسية بين الفرقاء سريعة العدوى والانتشار بين الغالبية المأزومة والمتقبلة للايحاء والمتطيرين الذين اتعبتهم الاحتمالات المتناقضة فيما "الغلابة" من ملايين اهل بغداد حيارى لا يعرفون ماذا يفعلون وما عادت تنفعهم حتى اساليب النفاق والازدواجية التي اضطر اجدادهم الى ممارستها مع السلطة من قبيل " الياخذ امي يصير عمي"."
 
وزاد الكاتب على ذلك ان خبرته الشخصية اوصلته الى ان المصاب بالبارانويا او جنون الاضطهاد والارتياب "يتمتع بمهارة درامية في تجسيد دور الضحية وقدرة عالية في اقناع الاخر بان اوهامه حقائق ثابتة وراح كل فريق يبث أوهامه عبر وسائله الاعلامية فصدق به اتباعه وغاية ما يريده المصاب بالبارانويا ان يصدق به اهله .. فكيف اذا صدق به ايضا كبار القوم في دول الجوار؟"
 
وفي مجال آخر وتحت عنوان "شيزوفرينيا" او الفصام وفي سخرية مرة وبرمزية يقول متحدثا دون تمييز عن تلك النماذج التي تكلم عنها بعد ان تخيل انه ذو قدرة فائقة على الدخول الى اعماقها "وجدت عقولهم فيها احولال وانهم اذا تكلم احدهم مع احدهم رآه اثنين وإذا تكلم مع اثنين رآهم اربعة.. وكل لسان مختلف وعقل مختلف.. مع انهم واحد. والاغرب انني عندما تفحصت جيناتهم وجدت انهم يتشابهون في جميعها الا جينة واحدة كانت تمشي متبخترة وتصيح "انا الامير وعلى غيري ان يسوق الحمير".. وخلفها جوقة تلبس الجراوات والشراويل والعقل والجينز.. يدقون الطبول بهوس.. ايقظوني من صحوتي عليهم اللعنة!"
 
ولان موضوع الفصام يستهويه نجد لديه في مكان آخر موضوعا عنوانه "شيزوفرينيا العقل العربي" وفيه يحدث عن الحوارات التي تبثها القنوات التلفزيونية العربية فيقول "وقد لفت انتباهي مسالة تحتاج الى تفسير هي انني لم اجد بين المئات من المتحاورين حالة واحدة يقول فيها المتحاور لنظيره.. انك على صواب او.. اشكرك انك صححت عندي فكرة..." وكثيرا ما تنتهي الحوارات بالتسفيه والسب والشتم.
 
وتحدث عن انقسام المشاهدين على الاسس نفسها ووصل الى القول " وذهب بي تفكيري الى ما هو ابعد.. مستقبل "خير امة" فأوصلني الى ان حال مثقفيها اذا بقي على هذا الحال... فان البيئة العربية ستكون طاردة للمفكرين "الخلافيين" وانها في المحصلة النهائية ستكون اكبر مشفى للعقلاء المجانين !..اترى ان توقعي هذا منطقي ام انني مثلهم اهذي ؟!"