الأُمية الحضارية في العراق : منتوج الاحتلال وسلسلة الاخفاقات



 
 
بقلم : الدكتور فهمي الفهداوي
ما حفزني إلى كتابة هذا المقال ، هو مجموعة آراء واردة ، تسنَّى لي الإطلاع عليها عبر البريد الإلكتروني ، أو المواقع الصحفية ، التي أظهرت التعليقات ، بخصوص مقالنا السابق : " تحولات الشخصية السياسية العراقية في خضم الاحتلال " .
وحتى لا يبدو بأنَّنا نسعى إلى تأكيد حالة الازدواجية المتعارف عليها ، كموضوع تقليدي للاستنتاج التحليلي ، من خلال الدراسات الاجتماعية التحليلية السابقة ، حول الشخصية العراقية ، فقد آثرنا أن نتواصل في طرح الأفكار المُستلَّة من الواقع السياسي والاجتماعي الراهن ، الذي يعيشه العراق والعراقيون ، تحت كمَّاشة الاحتلال الأمريكي ، وما نجم عنه من تصدعات مهولة ، أصابت البنية الجوهرية للشخصية العراقية ، من جميع جوانبها الفكرية والسلوكية .
فمقالنا هذا ينطلق من حالة الشحذ المعنوي ، التي نجمت عن استقراء الآراء الواردة من الكاتبة العراقية ( ضحى عبد الرحمن ) التي دعت إلى استثارة نقاشات مستقبلية ، حول هذه الثيمة من المقالات وموضوعاتها المثيرة ، فضلاً عن رؤية المعلقة ( عروبة ) التي أفادت بكون مقالنا إيّاه ، يسهم في تحليل يتناسب مع سرعة التحولات والتجاذبات ، التي تحيط بشخصية المجتمع العراقي ، ثم يأتي التعزيز الملفت للنظر ، من خلال رأي الدكتور ( خلف الدليمي ) الذي رأى بأنَّ المجتمع العراقي ، كثير التعلُّم قليل الثقافة ، مؤكداً على الأُمية الحضارية ، كمعادلة مستوعبة للتناقضات غير المعهودة ، الطاغية على الشخصية السياسية والاجتماعية في العراق اليوم .
وحتى نتمكن من تبيان فكرة المقال ها هنا ، إزاء تشخيص كُلّي للظاهرة المتموجة ، التي أفرزت قيماً جديدة وغير أصيلة ، لتصبح ضمن الواقع المرئي ، بمثابة الواجهة الزئبقية والطلاء الموشوري ، الذي تلونت به الشخصية السياسية والاجتماعية في العراق المضعضع بمحصلة سوريالية من الإخفاقات النفسية والاجتماعية ، فقد اقتبسنا مضمون ( الأمية الحضارية ) بوصفها المعادل الموضوعي المعاصر ، للاستطراد في تبيان العلل الموضوعية ، من داخل الأزمة ذاتها ، وتحليل إختلالاتها المُتسببة في وجودها وتأثيراتها وانعكاساتها .
فالعراق بوصفه إستراتيجية تاريخية للوجود والمدنية والملحمة والحضارة والإنسان ، لا يُمكن عزله عن فكرة ( الملحمة ) بمعناها الفجائعي ، حتى مع كون الفكرة ذات إمتدادات أسطورية بمعالم المجد والتمجيد والسمو ، وتنطبق عليها حالات كثيرة من السعادة وعدم الانزواء في حالة العزلة ، لا تاريخياً ولا حضارياً ، شجرة آدم ومدونات الأنبياء ، ومدينة أريدو الناصرية ، وكلكامش وشريعة حمورابي ، ومعالم بابل ، مرورا بمدارس الفقه ومناظرات الكوفيين والبصريين ، ووقائع التحصين التي صنعت بغداد المدورة ، ومآثر الموصليين في نينوى ، والأنباريين في الهاشميات والتخوم ، وانتقالاً إلى تحولات الخراب ، التي طالت مياه دجلة وتعثُّر الفرات ، منذ هولاكو والحرب مع التتار ، وصولاً إلى الغزاة الأمريكيين عند شواطئ البغداديين ، ليغدو العراق بمواجهة جديدة مع الفكرة السوداوية للملحمة ، ولكن من أي باب ومن أية فجيعة .؟
العراق بوصفه إستراتيجية معاصرة للتشابك والخطل ، يقترب كثيرا من مضمون الأُمية الحضارية ، بالشكل الذي يلحق التشابك ، بل والتناطح العقلي الآيل إلى مصير التشظي ، حيال الوجود المتعلق بالظاهرة الإنسانية ، لشعب من البشر ، هم أولئك العراقيون المضطلعون بالكفاح من أجل العيش وبقاء الجيل ، فضلاً عن المجاهدة والتكيف في إطار الفسحة الجغرافية والتضاريس والمكان ، التي أحدثت رخاوة طبيعتها المحسودة قساوة إنسانيتها الممدودة ، رخاوة في عدم الثبات على الأرضية الممتلكة ، وقساوة ليست مبدئية على القيمة المحصنة ، بقدر ما هي رغبوية - لحظوية ، داعية للانتهازية والإنفلاتية .
وهذه عرقلت بالتجريب والانفتاحية ، جميع المسعى الاجتماعي والسياسي ، عن بلوغ الرفاهية الحياتية المدعمة بالخصوصية والحضور، وزعزَّعت القدرة التمّكينية والاستحكامية على الثقافة الحضارية بدلالتها المعلومة ، وعطَّلت مقوماتها من أن تكون علامة تمييز فارقة – فاصلة ، بين هوية الشخصية العراقية من جهة ، وهوية الآخرين من السائحين والزائرين والغرباء والمتطفلين والأعداء من جهة ثانية .
العراق ظل يبني وجوده الاجتماعي بعقلية وجوده التاريخي ، الخارج من محرقة الملحمة الفجائعية ، والأزمات المتوارثة عبر الحقب المغبرَّة بالمآسي والصراعات ، وليس الخارج من محكَّات الإصطبار على المحن والانتكاسات ، بفوائد تقوية التحمُّل والانطلاق نحو مقارعة ظلم الأقوياء ، وحتى في سعيه نحو بناء وجوده الاجتماعي المعاصر ، استقدم حزمة الحُفر التاريخية ، المولّدة لأزمة شقِّ عصا التداعم ، وتقويض القوة الكلية للعراقيين ، جاعلاً منها نقطة تأسيس لمنطلقه وحراكه باتجاه المستقبل ، من خلال قوى الاحتلال المُضادَّة والمُدمرة ، وبالشكل الذي يمسخ فيه ، كُلَّ قيم التاريخ المضيئة ، مما جعله هذا ، عراقاً ساخناً – عديم المؤازرة ، يواجه العثرات والانكسارات والتمزُّقات وحيداً في الجلجلة ، عراقاً رسمه الغزاة البريطانيون قبل تسعين عاماً ، ويرسمه اليوم المحتلون الأمريكيون مباشرة قبل خمس سنوات ، وبطريقة عدائية غير مباشرة ، منذ ثورة 1958 .
العراق محصلة اجتماعية للفوضوية السياسية ، الناجمة عن إستراتيجية السياسي / الغير ، واستتباب أفكار الآخرين من السائحين والزائرين والغرباء والدخلاء والأعداء ، إلى الدرجة التي عاد فيها العراق ، وكما يتضح اليوم ، إلى بداية الدورة الأنثروبولوجية ، ولكن من زاوية كارثية معكوسة ، بأقسى من منطق ( ل . مير L . Mair ) الذي أقرَّ : " بأنَّ نطاق السياسي يبدأ حيث ينتهي نطاق القرابة " وإنَّما من حقيقة سيادة ( الأُمية الحضارية ) التي اقتنعنا بتأكيد حضورها في دينامية العقل العلمي الاجتماعي والسياسي في الشخصية العراقية المتحولة .
هناك أُمية علمية ، مفادها سحق المدونة الأخلاقية للسلوك المعرفي والعلمي ، وعدم الأخذ بمسوغات العقل الموضوعي ، في الإصلاح العام الاجتماعي والسياسي ، وفي تطبيق أولويات المقتضيات القيمية والأخلاقية والوطنية ، قبل سواها ضمن مشروعات التنمية والتطوير والثقافة ، وهناك أُمية مؤسسية ، مفادها إحلال المنظور الشخصي الحزبي – الشللي ، محلَّ كافة القواعد واللوائح القانونية والإدارية المنظمة للسلوك الاجتماعي العام ، واضطلاع سلوكيات الخرافة والتباعد والاغتراب ، وعدم الثقة بين أعضاء المجتمع في حراكهم وتفاعلاتهم ، وهناك أُمية إدارية ، تتمثل باضطلاع الجُهال والمنافقين والفاسدين بالمراكز القيادية وتوجيه المناصب ، بعيداً عن الكفاءة والجودة وروح الفريق ، والانسياق وراء مطلب التهميش والإقصاء للفاعلين والمؤهلين والنزيهين ، بدايةً من البلدية والمدرسة ودائرة الصحة ، مروراُ بالجامعة والمديرية العامة والوزارة ، وانتهاءً بغالبية المرافق الخدمية والثقافية والمراكز البحثية والإعلامية .
وقد تسببت هذه النوعيات من الأُمية ، في إشاعة مؤتمرات دعائية يروج لها موظفون حريصون على الانغلاقية والإقصاء ، تحت مسميات : إستراتيجية النهوض بالواقع التنموي ، وغير ذلك من المُسمَّيات ، دون استحضار الأساتذة والعلماء المُختصين بالتنمية من علماء الاقتصاد والإدارة والسياسة ، ودون تشخيص نقاط الخلل والمشكلات أولاً ، قبل البحث عن إستراتيجيات للنهوض ، كما تسبب ذلك أيضا في إنسياح المجتمع برمته في ظاهرة الأُمية الحضارية ، وسجنه في مفردات الهامشية الجماعوية والعشائرية والنخبوية السياسية ، من منطلق كون الأٌُمية الحضارية ، تتخطى كل مقايسات القيم الحقَّة ، والعقلانية العادلة ، بحيث تُشطب متوالية المفاهيم المنضبطة ، للتطور الاجتماعي والسياسي التدريجي ، بدءاً من القرابة والجماعة والتجمعات والمجتمع والشعب ، وانتهاءً بالدولة النظامية المستقلة .
إنَّ قيام ظاهرة الأُمية الحضارية ، يُشكّل معطىً ناتجاً عن فورة التحولات المنفلتة بكل الاتجاهات المُشخصنة لمتحف العبودية التجريدية ، الدالة على أسماء وشخصيات وأحزاب منغلقة ، في حدود الطائفة والعرق والأنوية ، دون تزكية للقيم الإنسانية الشاملة ، الموثوق من مردوداتها ، ومن خيوطها المأمونة التواصل على صعيد المجتمع والدولة ، إذْ يغدو نطاق السياسي في هذا المنعرج المتأزم من الواقع والحياة ، نطاقاً متصحراً ليس له بداية طبيعية ، كما ليس له نهايات محتملة الاطمئنان ، والغايات متأصلة أساساً وبالنتيجة في سلوكيات الفساد العام .
وشبيهاً بحال الخارجين من الغابة ، الداخلين إلى عمق المتاهة ، يبقى المجتمع الضحية الأولى ، والخاسر المُثقل بفقد المقومات البنيوية في تماسكه وتطوره ، كلما تغلغلت براثن الأُمية الحضارية ، القائمة على فكرة الاستبدال أو الاستهلاك ، محل فكرة التماسك والاحتفاظ ، مثل إستبدال فكرة الاحتفاظ بالنهر ، مقابل الشروع باستهلاك المياه الصحية ، المُصنَّعة في بلدان ليست لديها أنهر ، ومثل مقايضة أثاث المنزل القديمة بجهاز الخلوي التجاري المنشأ ، وتعرّية المنزل من وقاره الدافىء في الذكرى والتأدُّب .
حالات الأُمية الحضارية ، لا حصر لها عندما يتم استباحة أوطان الشعوب ، بهجمات عدوانية ظالمة ، وجوه جديدة ورموز جديدة وبنايات مصبوغة ورايات مستجدة ، ومدراء متميزون بربطات العنق والبدلات اللامعة ، وبكثرة الأخطاء المبرمجة ، نحو مزيد من الفساد واللصوصية والتمثيل ، ونحو عدم النضج بفداحة الأزمة الحضارية ، المطبقة على المجالات النفسية والوطنية ، ومثقفون لديهم معاول تهديم حجر الروح العراقية ، مقابل الروح الحزبية الشوفينية ، وأساتذة جامعيون يكتبون الرسائل والأطاريح ، ويمنحون الشهادات والامتيازات للفاشلين مقابل أموال حقيرة ، ومحللون تاريخيون وسياسيون ينظرون إلى العراق بأنَّه دولة معاصرة فقط ، وليس له استحقاقات تاريخية ولا حضارية .
العراق وطن الملحمة والفجيعة والمتاهة ، هكذا أراده المحتلون وزادوا عليه بالحرائق المتأججة بين النفوس ، وكل ذلك سعياً في ترسيخ معالم الأُمية الحضارية ، التي تفصل الجغرافيا عن التضاريس ، والمياه عن الأنهر ، والعراق عن شعبه ، وبالتالي فنحن جميعاً ليس أمام أُمية فكِ الخط والكتابة واستيعاب الرموز والمفاهيم ، وإنَّما أمام مهلكة الأُمية الحضارية ، التي تبتلع كل شيء أسست له الدماء والعقول ، وشيدته أشواط الكفاح المُر، للشخصية العراقية الحضارية ، التي يريد المحتلون اليوم جعلها شخصية فضائية ، لا وجود لها على وطن وأرض وسماء . وهنا يكمن جوهر الخطر ...! ما لم يعاد النظر في إستراتيجيات التغيير المعتمدة ، ويقف دعاة التنمية العراقية والحضارة العراقية ، يقف الدعاة الحقيقيون ، وليس الجُباة الفاسدون المعروفون بفسادهم وأُميتهم ، ليكذبوا ... ويكذبوا .... بعيداً عن التنمية الصحيحة ... وبعيداً وعن الحضارة والأصالة .