المجتمع الامريكى ورياح التغيير: هل ستحكم أمريكا امرأة أو رجل أسود؟



 
 
 
فرانسوا باسيلي*
"انعى لكم يا أصدقاء اللغة القديمة"..
كانت هذه  هىالصرخة التى تصور نزار قبانى انه يعلن بها وفاة الفكر القديم الذى أدى الى الهزيمة العربية الفادحة فى حرب الأيام الستة عام 67. ولو كان الله قد أطال فى عمر الشاعر العربى قليلا لعرف أن الفكر القديم مايزال حيا يرزق فى خلايا العقل العربى، بل لكان شاعرنا الجميل قد ازداد غما وهو يرى المجتمعات العربية ترجع الى الوراء الى ما قبل لغة وفكر القرن العشرين المهزومة لتتلفح فى فكر سلفى اشد قدما وانغلاقا وبعدا عن لغة العصر من الفكر الذى نعى لنا موته. هذا هو حال مجتمعاتنا العربية التى حينما تريد ان تتغير تختار ان تتغير فى اتجاه الماضى الاكثر تزمتا فإذا بها تنزع عنها القليل الذى كانت قد استعارته من ملامح ولغة وملبس ومسلك اللحظة العصرية الراهنة لتختفى وتنزوى فى تلافيف الكهوف السلفية العتيقة.
 
فى المقابل فلننظر الى المجتمع الامريكى الدائم التحرك والتوثب والقفز الى الامام ونحاول فهم مايحدث فى المعركة الانتخابية الضارية الجارية اليوم داخل الحزبين الجمهورى والديمقراطى فى الانتخابات التمهيدية قبل ان تشتعل المعركة بعد ذلك بين الحزبين الرئيسين وجيوشهما الجرارة بعد انتهاء كل حزب من اختيار مرشحه فى مؤتمر قومى عام فى الصيف المقبل. وقد يكون فى فهمنا هذا بعض الدروس المفيدة لمستقبل عربى منشود.
 
وقد أصبح من الواضح الان ان الحزب الجمهورى سيرشح السيناتور جون ماكين الذى حصل على العدد الاكبر من الاصوات الى اليوم بفارق كبير بينه وبين منافسه مايكل هاكابى حاكم ولاية اركانسا. هذا بينما اصبحمن الواضح ايضا ان الحزب الديمقراطى سيكون مرشحه فى النهاية اما هيلارى كلينتون السيناتور عن ولاية نيويورك او باراك اوبوما السيناتور عن ولاية الينوى.
 
ومن المهم هنا ملاحظة ان الصراع السياسى عبر الحملات الانتخابية بين الديمقراطيين والجمهوريين هو صراع سياسى على السطح بينما هو صراع اجتماعى – فكرى – ثقافى فى الأساس. وهذا ليس غريبا ففى المجتمعات الديمقراطية ليست السياسة سوى التعبير العملى عن الصراعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الدائرة فى الشارع اليومى وفى قلوب وعقول الملايين من العاملين به. فإذا لم تكن كذلك فهى اذن مزيفة مزورة لاشرعية لها وليس هذا هو الحال فى الديمقراطية الامريكية التى وان شابها الكثير من العيوب مثل دور المال مثلا ونفوذ اللوبيات المختلفة. فهى تظل رغم هذا هى النظام الاكثر قربا من رغبات ملايين المواطنين من اى نظام آخر على الارض اليوم. ويكفى للتأكد من ذلك متابعة اشتراك مئات الآلاف من المتطوعين فى كل حملة انتخابية لكل مرشح فى كل حزب، يقدمون ملايين الساعات من وقتهم وجهدهم تأييدا لمرشحهم، ويقدمون الملايين من الاموال نحو تحقيق الفوز. ويحدث هذا على مدى حوالى عامين كاملين، وعلى اتساع القارة الامريكية الهائلة فى مئات من المدن والقرى وآلاف من التجمعات والمدارس والجامعات بل والبيوت التى يزورها المرشح. بل ان كل مرشح عليه ان يصافح بيده المئات وربما الآلاف من الاشخاص كل يوم من ايام حملته الانتخابية حتى ينتهى الامر بملايين من المواطنين الذى يقولون انهم قد صافحوا شخصيا هذا المرشح او ذاك .
 
رياح التغيير وصخور الاستقرار
 
من طبيعة المجتمعات الحية ان يدور بها صراع مستمر بين رياح التغيير وصخور الاستقرار والاستمرار. فالاستقرار غريزة مرتبطة بغريزة البقاء الباحثة عن ضمان البقاء عبر السلامة والامن والاختباء من المجهول وتجنب المخاطرة غير المأمونة. بينما يمثل التغيير هو الآخر حاجة انسانية اساسية ترى ضمان البقاء ليس فى الخوف من المجهول والبعد عن الخطر بل بالعكس فى اقتحام المخاطر لتشكيل المجهول على هواها وصنع المستقبل صنعا "حسب الطلب".
 ولكنالاخيرة أقلية متحفزة قلقة مغامرة تقودها رؤية مستقبلية شاعرية خلابة لاترضى ولاتقنع وتطلب الاعلى والاجمل والاعظم دائما ولذلك يحمل الشباب عادة لواء هذه الرؤية التغيرية الخلاقة فالشباب فى كل امة هم الطلائع التى تخرج للشوارع فى مسيرات ومظاهرات ترفض وتطالب وتحلم وتغنى وتتمرد ولذلك ليس غريبا ان اكثر المصوتين لصالح ذلك الرجل الاسود –الشاب- نسبيا فعمره 47 عاما- هم طلبة الجامعات ومن هم اقل من ثلاين عاما.
 
ولاشك ان الحزب الديمقراطى والملايين التى اشتركت فى التصويت الى الان يشكلون اليوم علامة فارقة فى التاريخ الامريكى كله فهذه هى المرة الاولى التى سيقوم فيها الحزب الديمقراطى العريق بتقديم اما امرأة او رجل اسود ليكون هو مرشحه امام الجمهوريين. ولعل الانجراف فى اللحظة يمنعنا الى حد ما من التمثل الكامل لمعنى هذه الخطوة الجبارة وخطورتها فى مسيرة التطور الاجتماعى الامريكى. فالمنظمة القومية للمرأة المعروفة (Now) National Organization of Women لم يمضى عليها سوى اقل من اربعين عاما وماتزال المرأة الامريكية الى اليوم تطالب بمساواتها بالرجل فى الاجور اذ انها تحصل على 80% من اجر الرجل فى معظم الوظائف الخاصة –غير الحكومية- اما بالنسبة للسود الامريكيين فتاريخ العبودية مايزال فى قلوبهم وذاكرتهم القومية لايمحى بسهولة والتفرقة العنصرية ماتزال هنا وهناك لاتراها واضحة على السطح ولكن تراها واضحة فى لغة الارقام التى لاتعرف الكذب فنجد ان عقوبة الاعدام تطبق بنسبة اكبر على السود منها على البيض المقترفين لنفس نوع الجريمة ودرجاتها كما نجدها فى احصائيات التأمين والسلفات العقارية وغيرها.
 
وعلينا فقط ان نتذكر انه لم يمر سوى حوالى اربعين عاما على حادثة الحافلة الشهيرة حين رفضت روزا باركس- المرأة السوداء البسيطة- ان تقوم من مقعدها فى الحافلة –المخصص للبيض- وتجلس فى مقعد بالجزء الخلفى من الحافلة –المخصص للسود- وعلى اثر ذلك اضرب السود عن ركوب الحافلات –وكانوا هم ركابها الاكثر واشتعلت بذلك حركة الحقوق المدنية للسود التى قادها واستشهد فيها القس الامريكى الاسود مارتن لوثر كنج.. كان هذا كله فى الستينات من القرن العشرين.
 
اليوم نجد ان جيلا جديدا من الامريكيين تحت سن الثلاثين قد نشأ خاليا الى حد كبير من العنصرية ينظر الى مختلف البشر نظرة واحدة انسانية متساوية ولهذا ينظر هذا الجيل الى هذا الرجل الاسود الطويل النحيل الوسيم الذى يحدثه بخطاب مستقبلى مفعم بالرؤية الشاعرية المجنحة بالامل والعدالة والمساواة فيجد نفسه منجذبا اليه منحازا له. فيتبعه ويسانده ويصوت له.
ان صعود رجل اسود له اسم غريب غير امريكى تقليدى غير اوربى هو باراك حسين اوباما لهو حدث جسيم.  ولاشكانهيلارى كلينتون  قدصدمت بهذا الصعود الصاروخى الذى هدد حملتها الانتخابية وكان نجاحها يبدو فى البداية مؤكدا. ولكن سواء كان الناجح فى النهاية هو هيلارى او باراك فإننا هنا امام علامة فارقة فى التاريخ الامريكى تعبر عن تطور اجتماعى وثقافى هائل ستكون له ابعاد كبيرة لم تتضح كلها بعد.
 
ومن الطريف ان باراك حسين اوباما يثير فى اوساط عديدة ردود افعال ومشاعر مختلفة واحيانا متناقضة فبينما نجد باراك نفسه والميديا الامريكية لاتذكره الا باسم باراك اوباما فقط فإن بعض المذيعين بقناة الجزيرة لايشيرون اليه الا باسمه الثلاثى فى تأكيد لاسم حسين. ومن المؤكد ان المسلمين الامريكين سيصوتون بنسبة عالية جدا له وهم بطبيعة الحال كانوا سيصوتون للمرشح الديمقراطى بغض النظر عن من هو وعلى الاقل ترى الجالية العربية بامريكا فى اوباما رجلا كان من القليلين الذين اعلنوا معارضتهم لغزو العراق من قبل ان تحدث ويرون فى خطابه السياسى اعتدالا غير مألوف نحو القضايا الشرق اوسطية والعالمية بشكل عام.
 
وجه قديم
 
اما فى المقابل فيقدم الحزب الجمهورى وجها قديما مخضرما هو جون ماكين الرجل الذى يرفضه الجناح المحافظ الاكثر تشددا فى الحزب الجمهورى لانه ليس محافظا بالدرجة الكافية من وجهة نظرهم فهو لايوافق على اعتماد التعذيب فى سجن جوانتانمو مثلا.. وماكين هو الرجل الذى لايمانع من البقاء فى العراق لقرن كامل وهو الذى ايد سياسة بوش فى كل خطوة فى حربه الفاشلة المأساوية فى العراق ولايتحدث الا بخطاب عسكرى عنجهى فلا يذكر سوى النصر كقيمة عليا يريد تحقيقها بغض النظر عن المشروعية او المصداقية او العدالة او الحقوق الانسانية لملايين العراقيين الابرياء الذين هم ضحايا هذه الحرب العبثية الغبية التى قامت على عملية نصب وتزوير عالمية الابعاد بشكل ربما لم تقم عليه حرب اخرى فى التاريخ.
 
وهكذا ليس فى جعبة الحزب الجمهورى سوى هذا الرجل الممثل للفكر العسكرى المتصلب الذى كان وراء الانحدار الهائل فى شعبية الولايات المتحدة فى العالم وكذلك انحدار اقتصادها الذى بات ينؤ تحت ثقل هذه الحرب المخربة بينما تحشد الصين كل مواردها لتعزيز مكانتها الاقتصادية الصاعدة المتوقع لها ان تتفوق على الولايات المتحدة خلال العقد القادم. وعليه فقد حققت ادارة بوش خرابا حقيقيا فى الداخل والخارج معا.
 
ومع ذلك لاتتوقع ان يفقد الجناح اليمينى المتشدد المؤيد لهذه السياسة العسكرية المتحجرة ايمانه بها فهذا اليمين لايجيد سوى التطرف فى الايمان سواء كان الدينى او السياسى. فاليمينيون متطرفون بالمزاج والوجدان قبل ان يكونوا متطرفين بالفكر. ومن بين الجماعات اليمينية جماعة الكريستيان كواليشان اى التحالف المسيحى.. وهؤلاء يريدون ان يفرضوا رؤيتهم الدينية المتزمتة على المجتمع الامريكى كله وهم فى هذا كالإخوان المسلمين فى مصر والمجتمعات العربية ولايختلفون عنهم سوى فى اسم الدين الذى يتعصبون له. اما عدا ذلك فالتشابه شديد فهم مثلهم يخلطون الدين بالسياسة ويريدون ان يخضع كل شئ للتشدد الدينى ولايريدون من الفن سوى التعبير عن الروح الدينية ويرون في الجنس الشيطان الاعظم ويريدون فرض رؤيتهم الدينية على البشر اجمعين بدعوى هداية الآخرين ويريدون حشر الدين فى كل مناحى الحياة العامة الثقافية والاجتماعية والسياسية.
 
وهؤلاء كانوا ومايزالون هم اكثر المؤيدين لحرب العراق القائمة على التزوير رغم مخالفتهم فى هذا لتعاليم السيد المسيح نفسه. ولكن هكذا نجد افتضاح المتشددين دينيا كاملا سواء كانوا اخوان مسيحيين فى امريكا او اخوان مسلمين فى مصر الذين فضحوا انفسهم مؤخرا فى مشروع حزبهم السياسى الذى يحرم على المرأة والاقباط رئاسة مصر. فقارن هذا بما يحدث الان فى امريكا حيث سيختار المواطنون بحرية اما امراة او رجلا من السود لينافس على رئاسة البلاد.
 
هنالك ايضا فى الحزب الجمهورى المحافظون الجدد المهووسون بالحروب وهم من كان وراء حرب العراق و يريدون غزو ايران  ..وهم مصابون بنوع من الهوس العسكرى الذى يحلمون به بالتدخل فى كل مكان على الارض عسكريا لتشكيله على هوى رؤيتهم الصبيانية عن الحرية والديمقراطية التى تفرض قسرا على الناس. ويتبع هؤلاء كل من تلهب الرؤية العسكرية مخيلتهم وهم من يصرون على حق كل منهم فى حمل السلاح فى نفس الوقت الذى يتوهمون فيه انهم مسيحيون مخلصون مؤمنون بمسيح لم يحمل سلاحا فى حياته ونهر تلميذه حينما اراد ان يدافع عنه بالسيف لحظة اعتقاله من قبل الجنود الرومان.
 
انها اذن رياح التغيير الحقيقى التى تهب الان على القارة الامريكية  تحملالصراعبين القوى الشبابية ورؤيتها المستقبلية المفعمة بالامل وبين صخور وكهوف الاستقرار والتشبث برؤيته العتيقة الدموية المتشددة دينيا وعنصريا..
 
فلمن سيكون المستقبل القريب؟  
 
* كاتب من مصر يقيم في نيويورك