وداعا ...حامل الراية


 
 د/ نصار عبدالله
لم يكن شهران قد انقضيا من عام 2008 ، حين كان ثلاثة من فرسان الثقافة العربية قد ترجلوا ووسدوا رؤوسهم أرض هذه الأمة التى كثيرا ما شهدت غبار معاركهم وهم يتقدمون الصفوف من أجل بناء ضمير وعقل ووجدان عربى معاصر ومستنير ، آخر الثلاثة الراحلين غادر دنيانا فى 19فبراير.....كان الراحل فى هذه المرة هو حامل الراية ، وكانت الراية هى مجلة :"الآداب" البيروتية التى ظهرت فى عام 1953 وهو نفس العام الذى احتجبت فيه مجلة"الرسالة" القاهرية ، وكأنما قد شاءت الأقدار لهذه الأمة إذ ذاك ألا يطول الفراغ وألا تنقطع المسيرة ، فإذا بالآداب على يدى سهيل إدريس تلقى نفس الذيوع الذى لقيته الرسالة من قبل على يدى أحمد حسن الزيات وإذا بها تنهض فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى بدور لا يقل أهمية وتأثيرا عن الدور الذى نهضت به الرسالة فى الثلاثينيات والأربعينيات !! أما الفارس الذى سبقه فى الرحيل فهو رجاء النقاش الذى كان قد غادر دنيانا قبل ذلك بأقل من أسبوعين، على وجه التحديد فى 14فبراير وقد ارتبط اسمه بدوره بمجلة الآداب حيث كان مراسلا لها فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى وهو لم يزل بعد طالبا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة ثم أصبح بعد ذلك واحدا من أهم كتابها، أما الفارس الثالث فهو الدكتور أحمد كمال زكى الذى رحل عنا فى مطلع شهر يناير الماضى والذى عرفه قراء الآداب فى الخمسينيات والستينيات واحدا من أهم النقاد العرب المتميزين، وواحدا من أهم الذين كانوا يقومون بتقييم ما ينشر فى الآداب من خلال ذلك الباب الفريد الذى انفردت به والذى كان يحمل عنوان : " قرأت العدد الماضى من الآداب "، حيث كان الدكتور كمال زكى يتناوب كتابته مع عدد آخر من النقاد النابهين الذين كان كل منهم ينهض فى كل عدد بمهمة تقييم ما نشر فى العدد الماضى من الشعر أومن القصة أو من الأعمال الفكرية والإبداعية الأخرى. وقد ظل الدكتور كمال زكى يتابع إسهاماته فى الآداب وفى غير الآداب من المنابر الثقافية المحترمة إلى أن انسحب فى السنوات الأخيرة من الحياة العامة وآثر العزلة واقتصر نشاطه على المستوى الأكاديمى مخرجا من خلاله أجيالا جديدة من النقاد والباحثين المجدين ، .. ومنذ الأعداد الأولى للآداب كان بوسع قارئها أن يتبين بسهولة أنها على عكس الكثير من المطبوعات اللبنانية فى ذلك الوقت لا تنتمى إلى حزب معين ولا تدين بالولاء لجهة معينة ، لكنها عروبية الطابع شديدة الإيمان بأن هذه الأمة أمة واحدة وأن هذه الوحدة تتجلى أكثر ما تتجلى فى ثقافتها التى تنبع من تراث واحد وتتطلع إلى مصير واحد وتسعى ما وسعها الجهد أن تجد للعرب مكانا على خريطة العصر، وقد كان من الطبيعى والحال كذلك أن تتألق الآداب مع تألق المد القومى العربى وأن تنتكس مع نكسة 1967التى أصابت الحلم العربى فى مقتل فتداعى ذلك الحلم متداعية معه كل الإبداعات التى كانت تتغذى عليه وتغذيه ، وفى أعقاب النكسة نشر نزار قبانى فى مجلة الآداب قصيدته الشهيرة هوامش على دفتر النكسة التى يقول من بين ما يقوله فيها :
أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمه
والكتبَ القديمه
أنعي لكم..
كلامَنا المثقوبَ، كالأحذيةِ القديمه..
ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمه
أنعي لكم.. أنعي لكم
نهايةَ الفكرِ الذي قادَ إلى الهزيمه
***
إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ
***
خلاصةُ القضيّهْ
توجزُ في عبارهْ
لقد لبسنا قشرةَ الحضارهْ
والروحُ جاهليّهْ...
إلى آخر هذه القصيدة المتوجعة والموجعة والتى انتشرت على كل لسان بكل ما كانت تنطوى عليه من جلد قاس للذات ، ومن نقد عنيف لسلبيات الحقبة الناصرية وفى مقدمتها خنق الحريات، مما جعل من الهزيمة فى رأى نزار نتيجة منطقية وحتمية، ورغم ذلك فإن عبدالناصر لم يحاول أن يعاقب نزارا بمصادرة أعماله ولكنه اكتفى بمصادرة القصيدة التى كانت قد طبعت فى كتيب مستقل مسجلة رقما قياسيا فى حجم المبيعات، وفيما يبدو فإن هذا الموقف الذى اتخذه عبدالناصر لم يقتنع به بعض المزايدين فارتفعت بعض الأصوات من بينها صوت الأستاذ صالح جودت مطالبة بمصادرة كل أعمال نزار قبانى وبمنع إذاعة سائرالأغانى التى كتبها والتى غناها له كبار المطربين المصريين بل إن صالح جودت مضى أكثر من ذلك حين طالب بإصدار قراربمنع نزارقبانى شخصيا من دخول مصر!!، وحينئذ بادر رجاء النقاش بأن اقترح على نزار أن يكتب رسالة إلى عبدالناصر يوضح له فيها أن مشاعره هى مشاعر كل عربى أدمت قلبه النكسة ، وأن المصادرة ما هى إلا استمرار لسياسة القمع التى كانت على رأس أسباب الهزيمة ، وقد اقتنع نزار بفكرة رجاء وكتب رسالة بديعة إلى عبدالناصر حملها إليه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين ، وعلى إثرها أصدر عبدالناصر قراره بالسماح بدخول قصيدة نزار، رغم أنه كان ينتقد النظام البوليسى لعبدالناصر نفسه حين كان يقول فى نفس القصيدة:
لو أحدٌ يمنحني الأمانْ..
لو كنتُ أستطيعُ أن أقابلَ السلطانْ
قلتُ لهُ: يا سيّدي السلطانْ
كلابكَ المفترساتُ مزّقت ردائي
ومخبروكَ دائماً ورائي..
عيونهم ورائي..
أنوفهم ورائي..
أقدامهم ورائي..
كالقدرِ المحتومِ، كالقضاءِ
يستجوبونَ زوجتي
ويكتبونَ عندهم..
أسماءَ أصدقائي..
يا حضرةَ السلطانْ
لأنني اقتربتُ من أسواركَ الصمَّاءِ
لأنني..
حاولتُ أن أكشفَ عن حزني.. وعن بلائي
ضُربتُ بالحذاءِ..
أرغمني جندُكَ أن آكُلَ من حذائي !!
والواقع أن هذا الموقف لعبدالناصر من قصيدة نزار التى نشرت فى الآداب عام 1967يذكرنا بموقف مماثل له من قصيدة صلاح عبدالصبور التى نشرت أيضا فى الآداب عام 1954 فى أعقاب أزمة مارس الشهيرة التى دار فيها صراع بين جناح من ضباط يوليو يطالب بعودة الحياة الديموقراطية وعودة الثوار إلى ثكناتهم ، وجناح آخر يطالب باستمرار الثورة بقيادة جمال عبدالناصر، وقد انتهت الأزمة بانتصار جناح عبدالناصر وإقالة محمد نجيب وتحديد إقامته بالمرج ، حينئذ كتب صلاح عبدالصبور قصيدته : " عودة ذى الوجه الكئيب " التى تأولها الكثيرون على أن المقصود بها هو عبدالناصر ، بل إن بعض المعتقلين السياسيين فى ذلك الوقت راحوا يتداولوتها فى معتقلاتهم باعتبارها نموذجا لدور الشعر فى مقاومة الطغيان !!، وقد توقع الكثيرون بعدها أن العقاب سرعان ما سوف يحل بصلاح عبدالصبور ، وهو ما لم يحدث!!، كل ما فى الأمر أن الدكتور سهيل عندما أتيحت له الفرصة بعد ذلك بسنوات لمقابلة عبدالناصر فوجىء به يسأله : " هل أنا حقا ذو الوجه الكئيب يادكتور سهيل ؟" ، وذهل سهيل إدريس الذى كان قد نسى الأمر، لكنه تمالك نفسه، وهو يجيب: " قطع لسان من يقول هذا الكلام " ، قال عبدالناصر : " ألم يقله صلاح عبدالصبور؟؟ ، فأجاب الدكتور سهيل: بالقطع هو لم يكن يقصد سيادة الرئيس !!، وانتهى الأمر عند هذا الحد من جانب عبدالناصر ، لكن الدكتور سهيل بادر فيما بعد إلى إبلاغ صلاح عبدالصبور بمضمون الحوار فما كان من صلاح عبدالصبور إلا أن قال له : أيا من كان المقصود بذى الوجه الكئيب فإننى لا أشعر بالرضى عن المستوى الفنى لتلك القصيدة، ولقد ندمت على أنى تسرعت فى نشرها ، ولهذا السبب فإننى أقترح أن تحذف من الطبعات التالية من ديوان: "الناس فى بلادى".. وقد كان ..فلم تنشر القصيدة بعد ذلك فى أية طبعة لاحقة من ذلك الديوان ، بل إنها لم ترد ضمن الأعمال الكاملة لصلاح عبدالصبور التى صدرت عن دار الآداب بعد رحيل عبدالناصر بسنوات!! رحم الله جميع الفرسان.