أيام زمان .. حفلة ترفيهية للدراويش

هاني الخير
تحاشى المؤرخون القدامى مجاملة للسلطان وصف حياة الفقراء والمساكين والغرباء في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم وأخلاقهم وعاداتهم وطموحاتهم وأحلامهم الصغيرة فلا ندري عن ذلك الجانب الإنساني- الاجتماعي المؤلم سوى لمحات عابرة

وإشارات سريعة لا تكفي بأي حال من الأحوال لتصوير وتوثيق ما كانوا عليه من شظف العيش,ومن أحوال معاشية بالغة السوء وبخاصة الدمشقيين عبر عصور التاريخ عرفوا بالإحسان إلى هؤلاء الفقراء وكثرة التصدق عليهم وبناء التكايا والزوايا والدور لاستضافتهم وحمايتهم من التشرد وأذى الجوع الكافر.‏

وبمصادفة سعيدة رمية من غير رامٍ عثر الأديب السوري المؤرخ المرموق حبيب الزيات 1871- 1954 مؤلف كتاب الخزانة الشرقية بأربعة أجزاء في رحاب مكتبة أوكسفورد الوطنية في لندن على فصل ممتع كان ضائعاً على هامش مخطوط (مرآة الزمان) لسبط بن الجوزي, وفي هذا الفصل الطريف تفاصيل دقيقة وخفية عن وصف حفلة ترفيهية ضخمة أقيمت في دمشق عام 1263م حضرها الفقراء والدراويش والزهاد وأهل التصوف بدعوة شخصية من الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي المدفون في سفح جبل قاسيون, حيث أسمع الأمير مئات الحضور الموشحات الدينية والصوفية التي أدتها إحدى الفرق وكان الأمير بنفسه ينشد مع الفرقة ويدور مع الدائرين طرباً ونشوة في لحظات الوجد والفيوضات الإشراقية التي تتوهج بداخله بعد ذلك يقدم للحضور كافة أفخر المآكل والمشارب من العصائر المثلجة والفواكه النادرة والحلويات المختلفة ثم يدعوهم إلى الاستحمام في حمام خاص يجاور مكان الدعوة, وبعد ذلك يستبدل ثيابهم القديمة البالية بثياب جديدة زاهية بعد أن يتعطروا بماء الورد والمسك والعنبر.ثم يدعوهم إلى الطعام مرة ثانية وفي نهاية الوليمة التي كانت تتكرر سنوياً يقدم إلى كل واحد من الحضور بما فيهم غلمانه صرة مليئة بالدراهم الفضية ليستعين بها على تلبية حاجياته, وفي هذا الصدد فقد كان يقدر ما يدفعه الأمير حسام الدين على الشخص الواحد حوالى الثمانية آلاف درهم بما فيها نفقات الطعام والهبة المالية في زمن كان فيه رطل اللحم بمبلغ سبعة دراهم والدجاجة بمبلغ ثلاثة دراهم وكيس القمح بمبلغ يقارب الثلاثمائة درهم وجميع هذه الأشياء غالية جداً على ذمة المؤرخ القديم, ويبدو أن موجة الغلاء مستمرة بوتائر عالية منذ مئات السنين حتى هذا اليوم.‏