حتى لا ننسى

 
حاورته: رشا عبدالله سلامة
لم يتمكن محمد منصور ذو الخمسة عشر ربيعا تحديد كنه مشاعره عندما أطلّ على قريته "المنسي" لوداعها،  فثمة ريبة ممزوجة بخوف كانت تعتمل في صدره برغم أمله وثقته بأن هذا الوداع لن يدوم لأكثر من أيام.
 
ستون عاماً مضت على الحاج محمد منصور لم تفلح في تخفيف وطأة خيبة الظن تلك، عندما انقضّت العصابات الصهيونية على قريته الحيفاوية الساحرة "المنسي"، لتهجّر أهلها وتتركها قاعاً صفصفاً مايزال يردد صدى الضحكات والكلمات التي ملأت المكان يوما ما.
 
يستذكر الحاج محمد، الذي ناهز الخامسة والسبعين حاليا والذي له من الأولاد4 ومن الأحفاد6، أيام المنسي التي يأبى نسيانها مهما طال البعد. يقول "لم يكن هنالك ما هو أجمل من تلك الأيام. فجميع أهالي القرية كانوا يعيشون في بحبوحة وسكينة بين بيوتهم الطينية الدافئة وحواكيرهم وبياراتهم الخيّرة. كان الحب والتكافل يسودان المكان. لو سُئلت تلك القرية لأجابت لياليها الحنونة عن تلك الليالي الملاح التي خسف قمرها فجأة".
 
ويردف عن تلك الليالي، قائلا "حتى اليهود الذين كانوا يعيشون حول تلك القرية في تجمعات مثل(مشمار هيمك) لم يروا منا إلا كل خير، كنا مسالمين بطبيعة وسجية الفلاح، لم يدر في خلدنا يوما أنهم طامعين صامتين في أرض قريتنا الوادعة".
 
في عيني الحاج محمد وصدى أنفاسه لوعة مشتاق حُرم من معشوقته على حين غرة. يبوح بتلك اللوعة قائلا "ماأزال أشتم نسائم ليالي المنسي حتى الآن. وماتزال غرف بيتنا الحنون ماثلة أمامي وكأنما غادرتها في الأمس. وماتزال أهازيج ومواوويل الأفراح ترن في أذني. وماتزال حسرات قريتنا تنزف داخلي حتى الآن، فقبل أن يبطش اليهود بطشتهم بنا فعل ذلك الإنجليز مراراً. لقد حاصروا المنسي حتى خنقوها واعتقلوا خمسة منا مانزال نجهل مصيرهم حتى الآن ومنهم حاكم الثورة الحاج حسن منصور وابنه الوحيد علي وسعيد الموسى وسعد الجندي وعبدالرحمن إبداح".
 
بنبرة مرتعدة يردف الحاج محمد "بعدها بدأ خوف فطري يتسلل إلى نفوسنا رغم تواضع مداركنا حينها، عندما بدأ اليهود مساعيهم المستميتة لشراء أراضي القرية. كنا نرفض بغريزة صاحب الأرض الذي يأبى أن يفرّط بها مهما كان الثمن. ولكن لم نستوعب حينها حجم المخطط الضخم الذي كان ينسجه اليهود والإنجليز معاً".
 
تطل من عينيه نظرة حزن غامر، إيذانا ببدء ذكريات إعصار الاحتلال الذي مايزال يعصف بـ "المنسي" حتى اليوم. بنبرة صوت تخالطها تنهيدة عميقة يقول "وصل لمسامع المجاهد فوزي القاوقجي في ذلك الحين أن اليهود باتوا يصرّحون بأطماعهم في القرى الفلسطينية ومن بينها المنسي، فما كان منه إلا البدء بتأديب تلك المستعمرات لكبح جماح طمعها".
 
يكمل بينما يكتسي محياه بصفرة حلت مكان وجه الذكريات السعيدة الريان. يقول "جاء القاوقجي ومعه نائبه مهدي العاني وقاموا بقصف مستعمرة(مشمار هيمك) المحاذية لقريتنا. وأذكر أن القاوقجي جاء لمنزل والدي الذي كان شيخ القرية واسمه الحاج رشيد. وقال له بالحرف الواحد: يا حج رشيد لقد قصفنا المستعمرة ودمرناها ولن تقوم لها قائمة بعد اليوم، والآن اذنوا لي بالانسحاب من قريتكم والتوجه إلى قرية جبع جرار".
 
لحظات أطبق فيها الصمت على حديث الحاج محمد منصور. وكأنما يستجمع قواه لاستذكار خيبة الأمل التي انشق عليها الصباح. يقول "كانت الصدمة عندما أفقنا صباحا لنكتشف أن المستعمرة ماتزال كما هي، إذ لم يُهدم منها ولو حجر، بل مجرد دخان أسود كان يكسو أسوارها". دموع تطل من عينيه، بينما يتهدج صوته ألما، ليقول "أسلحة الثوار طلعت فاسدة".
 
تزوغ عيناه وكأنما لا يريد الوقوف أمام خيبة أمل تلك اللحظات وخوفها. يقول "لم يكد أهالي القرية يستفيقون من ذهولهم عندما رأوا المستعمرة لم يمسسها سوء، حتى بدأت أسراب اليهود تنقض على القرية بأعداد كبيرة مدججة بالأسلحة".
 
يتنهد بحرقة بينما تمثل لحظات الرعب والوجوم تلك في عينيه. يقول "هاجت القرية وماجت بين شهيد وجريح، وبين صرخات استنجاد وذعر. لم يكن أهالي القرية البسطاء يملكون غير بنادق بسيطة، لأن مصادر التسليح حينها لم تكن متوفرة".
 
يسارع في التقاط أنفاسه المتوترة تماما كما كانت في ذلك الحين، مردفا "بعث أهالي المنسي بصرخات استنجاد إلى القاوقجي في قرية جبع جرار التي غادر إليها، ولم يمض وقت طويل حتى حضر لنجدة المنسي. حينها اجتمع بممثلين عن اليهود في الشارع العام للقرية. ثم طلب منا أن نُخرِج النساء والأطفال والشيوخ فيما بقي رجال القرية مرابطين فيها".
 
تنهمر دموعه رغما عنه. بصوت يُسمع بالكاد يقول "لم تكن المعركة متكافئة. رابط رجال المنسي حتى سقط جلهم شهداء وجرحى، وحتى سقطت المنسي في أيدي من يملكون عدة وعتادا لا يكاد يقارن بما يملكه فلاحو القرية. وقفوا بلؤمهم وجبروتهم في وجه تلك البساطة والطيبة حتى أردوها قتيلة".
 
يضرب كفا بكف بينما يحدق في ركن بعيد في الغرفة. يقول بأسى "يبدو أن القاوقجي أدرك أن المعركة المقبلة ستكون أكبر من إمكانيات فلسطين وأعقد من كل الاعتبارات والحسابات، عندما أمر بإخراج النساء والأطفال والشيوخ".
 
بصوت عاد إلى نبراته جزع الفجيعة، يقول "طُردنا من القرية. والمشهد يختلط بين دم ودمع. برغم كل من سقطوا منا وبرغم المجزرة التي ارتكبوها بحق قلوبنا قبل أجسادنا برغم كل ذلك لم نتخيل يوما أن ذلك سيكون الخروج الأخير وبأننا لن نحتضن أفراحنا من جديد على أرض المنسي".
 
يسدل يديه المتشابكتين كأنما يعيش في لحظات العجز والذهول التي مر بها وأهالي قريته ذلك اليوم. بصوت مثقل بالأحزان يقول "خرجنا لا نحمل معنا غير حسرتنا وذعرنا. العالم يعتقد أننا نبالغ حين نقول ذلك. لا يعلمون أننا لم نمتلك في رحلة لجوئنا الطويلة تلك غير بقايا أرض فلسطين نفترشها والسماء الشاهدة على ما وقع علينا نلتحفها".
 
يتنهد من جديد. بينما يعاود حديثه قائلا "ظللنا نسير على أقدامنا حتى وصلنا إلى قرية اسمها سالم في قضاء جنين. مكثنا بها أياما بينما الوجوم والذهول مايزال يعقد ألسننا. لم نكن متأكدين بعد كون مارأيناه كان حقيقة أم كابوسا".
 
لحظات صمت عادت تسيطر على الحديث. بينما فرّت دمعة حزينة لم يفلح عنفوانه في إخفائها. يقول "بعدها تخطفتنا سبل الشتات. فمنا من رحل إلى جنين، ومنا من استقر به الحال في مخيمات الداخل، أو مخيمات المنفى. ضاعت المنسي وضاع رباطها الذي لمّ أجيالا متعاقبة. حينها أُعلن ميلاد جيل الشتات".
 
ويستذكر الحاج محمد منصور كيف كان هاجس التعليم يلاحق الفلسطينيين حتى وهم في ذروة الصدمة والمأساة. يقول"برغم المصاب الجلل الذي تغشّانا، إلا أن طوابير الصباح كانت تنتظم في العراء والمخيمات، وكان المعلمون يؤدون دورهم رغم ثقل المأساة على ألسنهم".
 
يوجم للحظات. تمتزج في سكنته ملامح بؤس عميق لم تندمل جراحه رغم السنوات الستين التي مرت. يقول بينما نبرة بكاء مكتوم تسبق صوته "قد لا تصدقيني إن قلت لك إن مشاعر الصدمة ماتزال حاضرة حتى الآن. ما حدث لا يتصوره عقل مهما كانت الكلمات بليغة ومهما كان الوصف دقيقا. ماتزال حسرة ومرارة الظلم تلح علينا بقوة. مازلت أتحسر بطبيعة الفلاح على أرضنا التي زرعناها ذلك العام ولم تمهلنا أسراب الاحتلال حتى نفرح بحصادها. ما وقع على الفلسطينيين لم يقع على أحد في هذا الكون".
 
يكابر على جرحه الدامع للحظات. يردف "حتى اليوم مايزال لدينا أمل قوي في أن نعود يوما ما للمنسي التي سُرقت منا في وضح النهار. وظل الحنين يحذونا طوال تلك السنين لسماع أخبارها بعد أن أضحت وحيدة".
 
تخونه قواه. يبكي كمن اعتاد على دموع الثكل طوال السنين الماضية. يعود للحديث بعد دقائق بصوت متحشرج قائلا "تمزقت قلوبنا عندما علمنا أنها غدت أطلالاً تنتحب على ساكنيها ليلا ونهارا. ساكنوها الذين ملأوها حياة يوماً ما. القلوب ماتزال تراها والأعين والأقدام لا تطالها".
 
تطل من بين تلك الدموع وتنهيدات الألم ملامح العنفوان عند الحديث عن الإنجازات التي يرى الحاج محمد منصور أنها قاسم مشترك بين أبناء الشعب الفلسطيني، واصفا مآسي الاحتلال بـ"الوقود الذي لم يفتأ يسيّر عجلة التصميم والنجاح الفلسطيني في الوطن المغتصب والمنفى". فالحاج محمد قد شق مساره المهني والثقافي في السلك التربوي على مدار عقود مضت. وعن تلك الإنجازات يقول "عملت معلما في وكالة الغوث في منطقة وادي اليابس في الأراضي المحتلة ومن ثم في جنين. وبعدها ذهبت ومجموعة من المعلمين الفلسطينين إلى الجزائر كي ننشر اللغة العربية هناك، ومن ثم عدت إلى الأردن لأكمل رحلتي الأكاديمية الطويلة".
 
لحظات، وعادت ملامح الحزن لترتسم من جديد على محياه الذي ينطق باسم "المنسي" في كل لحظة. يقول "قصور الغربة والشتات جميعها لا تساوي لحظة فيء تحت زيتونة يستظل بها الفلسطيني على أرض قريته. قريته التي لا يملك أحد في هذا العالم المسوّغ لاغتصابها وحرمانه منها".
 
نبرة أمل أبى الحاج محمد منصور إلا أن يختم حديثه بها، قائلا "للباطل جولة وللحق جولات. ولم يحدث قط أن بقيت أمة على قوتها وهيمنتها. لا يمكن لكل جبروت المحتلين والغزاة أن يصمد أمام قوة الحق التي تترافع عن الزمن والذكريات وقواشين الأرض ومفاتيح البيوت. البيوت التي ستبقى تطارد اليهود بسطوة شرعيتها وإن هدموها