مع هبوب عواصف الهيمنة.. أين ذهب الأمن القومي العربي؟




بقلم/ د. رفعت سيد أحمد
* تهب على وطننا العربي، هذه الأيام، رياح شريرة لا تلبث  أن تتحول إلى عواصف للهيمنة والتدمير، للأسس التي قامت عليها وحدة هذه الأمة التاريخية، ومصالحها الاستراتيجية، إنها عواصف تمثل واشنطن وتل أبيب، محركها الأول، والرابح الرئيسي لنتائجها، فالذي يجري اليوم في (فلسطين)، و(العراق) و(لبنان)، و(السودان) و(الجزائر)، وغيرهم من بلادنا العربية المبتلاة بأنواء الاحتلال والعنف والصراعات الأهلية، ليست واشنطن وتل أبيب ببعيدين عنه، إنشاءً وجنياً للثمار، وسط هذه الأحداث، يتوقف المراقب بألم وحسرة على مفهوم بدأ في الانقراض، وأضحى الحديث عنه من قبيل (الطرائف)، وتقطيع الوقت أو المجادلة النظرية، ولكنه رغم ذلك، يظل مفهوماً عزيزاً على هذه الأمة، ويحتاج إلى إعادة اهتمام وتأمل، إنه مفهوم الأمن القومي العربي.
* ولأننا بصدد محاولة لتأسيس بناء نظري لهذا المفهوم المهدد بالانقراض بفعل عواصف الاحتلال والتشرذم فإننا سنحاول أن تقدم تعريفاً شاملاً ومجرداً للمفهوم في محور أولي أو حلقة، آملين أن يستفاد منه أكاديمياً، وأن يكون وعاءاً تأسيسياً لما نريد الحديث عنه، ألا وهو الأمن القومي العربي: مفهوماً وواقعاً مستباحاً كمحور وحلقة ثانية.
*          *          *          *          *          *
يحدثنا الواقع العالمي المعاصر بمشكلاته وتطوراته السياسية المتلاحقة أن ثمة تعريفات متعددة لمفهوم (الأمن القومي) وأنها قد تعددت وتنوعت تجاهه حيث يقف خلف كل المحاولات التي اقتربت من المفهوم دراسة أو تنظيراً، (مدرك أساسي) لدى القائمين بذلك، وهو أن حول هذا المفهوم تدور سياسات وتوجهات الدولة الحديثة.
وبداية فإن مفهوم الأمن القومي قديم، إذ صاحب نشوء الدولة وتطورها وإن لم يجد الصياغة الفكرية الدقيقة إلا مؤخراً، ولقد تعددت الصياغات العلمية للمفهوم تبعاً لنوع المعرفة الغالب على فكر الباحث (سياسي، قانوني، اجتماعي، نفسي...إلخ) والمفهوم يفترض عند تحليله، الحديث عن مكوناته ودلالاتها أولاً، ثم الحديث عن مقوماته وتعريفه العام متصلاً بحدود (سيادة الدولة الحديثة) الذي يدخلنا بالتبعية إلى حديث الأمن القومي العربي في تطوراته وأبعاده الجديدة.
التعريف من خلال المكونات:
تمثل كلمتا (الأمن) و(الأمة) المكونات اللفظية للمفهوم وعند تحليلهما نجد أنه بالنسبة لكلمة الأمن فثمة معنيان الأول: يعني حالة الإحساس بالثقة والطمأنينة التي تدعو إلى أن هناك ملاذاً من الخطر، والمعنى الثاني: يتمثل في الموقف المترتب على الحاجة إلى الأمن ويرتبط بخاصية (العدوانية) لدى الإنسان البدائي، والتي تبدأ بالرغبة في (امتلاك الذات)، ومن ثم فإن امتلاك العيش ليس سوى تعبير عن امتلاك الذات معبراً بذلك عن الشكل الأول للعدوانية والمبني على فكرة الخوف من الموت وهذه الفكرة هي الأساس الحقيقي الذي تشكلت به المواجهات الدولية كافة وبمعنى آخر ـ كما يرى البعض ـ فإن الغضب والعنف ليسا سوى الخوف في الحركة القومية.
والأمن مفهوم واحد لا يتجزأ، ولكننا نجد أن له أسماء عديدة جاءت جميعها لتسهيل الدراسة والبحث، وإن كانت جميعها تعبر عن أحد جوانب فكرة متكاملة واحدة هي (الأمن) وفي هذا الإطار نجد الأمن من حيث الطبيعة قد تم تقسيمه إلى أمن شعوري وأمن إجرائي، ومن ناحية الهدف إلى أمن قومي وأمن دولي. إن مفهوم الأمن يعني باختصار ذلك الشعور المتجانس بالثقة والطمأنينة، كحالة وكنتيجة لازمة لمجموعة من المواقف والإجراءات الكفيلة بتحقيق الغياب الحقيقي للخطر.
أما بالنسبة للمكون الثاني لمفهوم الأمن القومي فهو (مفهوم الأمة) وتعني الأمة طبقاً لمصادرها الأولى الغربية، جماعة من البشر جمعتها وشائج مشتركة من اللغة والتاريخ والأرض والاقتصاد والولاء القومي، بمعنى أكثر تحديداً تعني (الدولة القومية)، سواء أكانت هذه الدولة تقوم على أساس التوحيد بين البشر الذين يعيشون على أرضها على أساس العاطفة المشتركة كما في الفكر التقليدي الأوروبي (ستيوارت ميل) أم استناداً إلى نظريتي التحديث والاتصال الجماعي لـ(كارل دويتش)، والقائمة على زيادة سيطرة الجماعة على الطبيعة من خلال التكامل الوثيق بين أعضاء هذه الجماعة الذين يتشكل لديهم الشعور القومي نتيجة التلقين الاجتماعي، والتشكيل الذاتي لعادات الجماعة كما في الفكر الغربي الحديث. وكلمة (أمة) في اللغة العربية قد تضيق وتتسع من حيث الحجم والمدى، وهي تعني وجود سلطة آمرة على رأس الدولة.
هذا عن المفهوم وقد وصلنا به إلى متغيراته اللفظية الأساسية. فماذا عنه في مستوياته الأخرى؟
*          *          *          *          *          *
الأمن القومي وظيفياً
إذا كان الأمن القومي مجزئاً يعني (الأمن)و (الأمة) فماذا عنه حين ننظر إليه في إطاره الكلي والوظيفي؟ بعبارة أخرى ماذا نعني بالأمن القومي للدولة الحديثة من ناحية، والأمن القومي ومفهوم السيادة لهذه الدولة من ناحية أخرى؟ لقد أدت النظرة الضيقة والتقليدية لمقومات الأمن القومي وجعله يستند بصفة مطلقة إلى المقومات العسكرية للدولة، إلى مسارعة المفكرين والكتاب الاستراتيجيين إلى تأصيله ومحاولة اكتشاف مقوماته ومتغيراته الأصيلة بعد التفكير العميق في أحوال العالم المعاصرة، ولقد أدى اتساع ـ النظرة ـ بالضرورة ـ إلى بروز العديد من الدراسات الأكاديمية وبالتالي العديد من التعريفات، فالأمن القومي يعني فيما أوردته دائرة المعارف البريطانية: (حماية الأمة من خطر القهر على يد قوة خارجية أو دفع العدوان عن دولة معينة والمحافظة على كيانها، وضمان استقلالها والعمل على استقرار أحوالها الداخلية) وفي تعريف ثان يقدمه أحد علماء الاجتماع يرى (أنه قدرة الأمة على حماية قيمها الداخلية من التهديد الخارجي) وكان تعريف والتر ليبمان من أشهر التعريفات التي حاولت التصدي للمفهوم حيث أورد (تكون الدولة آمنة عندما لا تضطر إلى تكريس مصالحها المشروعة لتفادي الحرب، وهي أيضاً قادرة ـ في حالة التحدي والضرورة ـ على أن تكرس هذه المصالح لمواجهة الحرب).
وأخيراً يعرفه هنري كيسنجر بقوله: (إنه يعني أي تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى تحقيق حقه في البقاء).
* إلا أن مفهوم الأمن القومي يرتبط بمفهوم سيادة الدولة، وهو بدوره مفهوم معقد لا يسهل تصنيفه علمياً، وأي محاولة لتعريفه بدقة سوف تفشل ،حتى لو جرت المحاولة في غرفة (مليئة بعلماء السياسة على حد تعبير ميلر، وإنما يمكن القول باختصار أن السيادة هي واقع القوة (Reality Of Power) ومن ثم تصبح السيادة ليست سوى مفهوم سياسي، فالدولة ـ كما هو معروف ـ هي بمثابة جهاز (الأغراض المتباينة) وتتعرض من خلال سعيها لتحقيق هذه الأغراض لضغوط عديدة ومتباينة قد تجعلها تغير من أهدافها القومية تكتيكياً أو استراتيجياً حسب ما يتوفر لها من قوة، ومن خلال هذه العملية يمكن أن يصاغ مفهوم السيادة، ومن هنا يتوالد ارتباط (الأمن القومي) بمفهوم (سيادة الدولة) حيث هو الذي ينشئها ممثلاً الوعاء الخالق لها، حيث (هي) المبرر الموضوعي لأهداف الدولة واعتبارات أمنها القومي.
فالدولة ذات السيادة ليست سوى (آلة التعبير) عن السياسة، والسياسة ليست سوى خطط وأهداف تأتي (صفة الأمة القومية) في بؤرتها، السيادة بهذا المعنى تأتي كنتيجة وكسبب للأمن القومي، وكواجهة لقوة الدولة القومية، تصبح الحقيقة الأولى للحياة السياسية برمتها، ومن ثم لا توجد فكرة الدولة المجردة، إلا في عقول قلة من الكتاب الذين يولدون دائماً بعيداً عن مأساة أمتهم.
إن سيادة الدولة كمفهوم قانوني واستراتيجي يفترض اليوم ـ وبالضرورة ـ امتلاك الدولة لأحدث أدوات القوة للدفاع عن الذات ونظام القيم الداخلية بعبارة أخرى للدفاع عن أمنها القومي، وهنا تصبح مسألة امتلاك السلاح النووي قضية حيوية وخاصة حين نعلم أن امتلاك هذا السلاح يوفر للدولة التي تمتلكه إمكانية أكبر من (الحركة والاستخدام للأسلحة التقليدية) ولنتأمل نموذجي إسرائيل وإيران وقضية سلاحهما النووي وأبعاده المعقدة كدليل على ما نقول.
*          *          *          *          *          *
نخلص من التحليل السابق بشأن مفهوم الأمن القومي إلى أننا بصدد مفهوم أصابه التطور والتجديد، فلم يعد الأمن القومي هو فقط (القدرة على حماية الذات من خطر القهر الخارجي) أو (حق التنمية والتطور) أو (حق البقاء) وإنما أصبح بالإضافة إلى هذا كله (كيف تكون تلك الحماية أو تلك التنمية أو ذلك البقاء) وبأي الطرق وإلى أي مدى؟
هذا عن المفهوم المعقد الذي أثار ولا يزال يثير العديد من الاستفهامات في محاولة لضبطه ومعرفته ،فماذا عنه حين ننزل إلى سلم التحليل خطوة أكثر تحديداً؟ ماذا عن الأمن القومي العربي في أصوله العامة؟ في نقاط ضعفه وقوته وبنائه العام؟ خاصة مع تطورات وأزمات واقعنا العربي (العراق ـ لبنان ـ فلسطين) التي باتت تهز المسلمات وتفرض نفسها على رجال الفكر ربما بأقصى من فرضها نفسها على رجال السياسة؟
وذلك هو حديثنا القادم،،،