أكرم من في الدنيا

جلال خير بك
ليست الشهادة قيمة أخلاقية فحسب.. بل هي أعلى مراتب الغيرية التي يفضل فيها الإنسان وطنه : على دمائه وروحه فيجود بهما حفظا للأرض والعرض..‏ 

وفي لحظة نادرة يواجه الإنسان فيها خيار الموت وخيار البقاء عبدا: فتعلو الحرية في هذا الموقف: دافعا وغيره وثقة.. على غريزة البقاء وما تستتبع من ذل ومهانة وعبودية.. فيختار الإنسان الحر موقفا ساميا غير مبال بالحياة والبقاء الشخصيين, وذلك أقصى غاية الجود.‏‏‏

إن هذه الأمة وهذه الأرض: تعرف منذ عمق التاريخ, أن وجودها حرة كريمة.. مرهون بالمواقف الأبية وبالدماء التي يضحي بها أبناؤها فداء لكرامتها وعزتها.‏‏‏

وفي عهود الاحتلال المغلفة ( بالإعمار!), التي عرفها الوطن في العصر الحديث.. كانت دماء الأحرار هي المدافع الصادق عن شرف الأرض والأمة.. ففي السادس من أيار: حملت المشانق أجساد فتية أباة وكرام, هبوا دفاعا عن وطنهم, وشهدت ساحة المرجة,(ساحة الشهداء فيما بعد) تلك الأجساد معلقة بعد أن ضحت بالنفوس في مروءة وكرم دفاعا عن الوطن.‏‏‏

لقد قدمت هذه الأرض وقفة مشرفة غير مسبوقة في تار يخ الأمم .. إذ وقف وزير دفاعها الشهيد (يوسف العظمة) على رأس المدافعين عن سورية في ميسلون مع عصبة من الرجال وقلة العتاد: لتواجه قوة عظمى خرجت مع حلفائها, منتصرة في الحرب العالمية الثانية.. وجاءت إلى بلادنا بحجة إعمارها !! فقد كانت في حقيقة الأمر عملية احتلال مغلفة بالادعاء!‏‏‏

واستشهد وزير الدفاع واقفا, مع رجاله فكانوا شهداء موقف وقضية, غير مبالين بالقصور التي كان باستطاعتهم سكناها في بحبوحة من العيش.‏‏‏

في الثورة السورية الكبرى انتفض أبناء الوطن ضد المحتل.. واشتعلت الأرض من ساحلها وشمالها وأواسطها وجنوبها لتعلن أن الدماء تبقى رخيصة في سبيل الوطن, فقاد سلطان الأطرش هذه الثورة حتى شهد من بقي من أولئك الفتية الثوار الأحرار, فجر الاستقلال والجلاء عن البلاد في 17 نيسان .1946‏‏‏

وعندما أقامت الدول المتحالفة: الكيان الصهيوني كان لحرب 1948 شهداؤها كثورة ضد الاحتلال الجديد الذي اقتطعت فيه تلك الدول جزءا من سورية ( فلسطين) كوطن (قومي!) لشذاذ الآفاق الذين جاؤوها من دول وقوميات أجنبية بدعوى أنها أرضهم!.. فمن كان من بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا أو روسيا وأوكرانيا وبولونيا وسواها من الدول: صارت فلسطين أرضهم! في مسرحية لم يشهد التاريخ أكثر منها هزلا وكذبا!!‏‏‏

ورغم محدودية وسائل القتال والدفاع , هب أبناء الأمة من كل قطر عربي وقاتلوا دفاعا عن فلسطين وقدموا آلاف الشهداء والضحايا ولم يفلحوا لأنهم كانوا يقاتلون الدول المتحالفة نفسها!‏‏‏

وفي سنة 1956 لم تلن الأمة حين أغارت عليها القوات الأجنبية , الفرنسية والبريطانية ومعها القوات الصهيونية: لاحتلال مصر واستعادة قناة السويس بعد أن أعلنها الرئيس جمال عبد الناصر شركة عربية مصرية مؤممة. وكان للتعاضد العربي يومها: مقدرة إرجاع الأرض هؤلاء الغزاة بعد أن اشتعل الرأي العالمي احتجاجا على الدول المهاجمة المعتدية. وحين حدث العدوان الصهيوني في 1967 في الخامس من حزيران لاقتطاع أجزاء جديدة من الأرض العربية مدعوما بالموقف والعتاد والمشاركة المستورة من الدول الغربية.. روّى الشهداء بدمائهم أرضهم التي افتدوها بالأرواح وخلقت انتفاضة جديدة قادت إلى حرب تشرين 1973 التي حررت الإرادة العربية من خوفها ومن مقولات الجيش الذي لايقهر فاستعادت القوات العربية المتضافرة وخلال أيام.. الأراضي التي سلبت فتدخلت الدول الغربية- كالعادة- مدعومة من أميركا هذه المرة لحماية الكيان الصهيوني بعد أن كان على شفير الانهيار.‏‏‏

وقد كان للألق العربي الذي تحقق في حرب تشرين التحريرية, ما أسمع العالم كله: صوتا عربيا جديدا حقق انتصاره بفضل الدماء العربية المبذولة.. وكان للشهداء الدور الأكبر في هذا الانتصار.‏‏‏

وحين اجتاح الصهاينة لبنان سنة 1982 لم تلن قناة الأمة, فقدمت الاف الشهداء والمقاومين الذين أجبروا الصهاينة على مغادرة الأرض اللبنانية ليعيدوا الكرة بعد سنوات حين اجتاحوا جنوب لبنان, فلقوا من المقاومة ما لم يتوقعوه إذ أحرقت الأرض تحت الغزاة فاندحروا في هذه الحرب التي ما تحققت نتائجها الباهرة لولا دماء وثبات ووفاء الشهداء.‏‏‏

إن الأمة أثبتت في حرب جنوب لبنان أنها ليست عقيمة.. بل هي قادرة على إنجاب الاف الأبطال الذين يسترخصون كل غال لصيانة كرامتها وعزتها.‏‏‏

لقد قال القائد الخالد حافظ الأسد في حرب تشرين وبعدها:‏‏‏

( إن الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر).. وقرن القول بالفعل, فانحنت قامته إجلالا للشهادة فرعى أسر وأبناء الشهداء.. ولم يناده ابن أوابنة شهيد إلا بكلمة:( بابا) فسمي رحمه الله وطيب ثراه: بأبي الشهداء.‏‏‏

إننا نقف اليوم إجلالا لأرواح الشهداء في عيدهم 6 أيار غدا ,الذي هو أولا وآخرا: انحناء وتقديس لأرواح من ضحوا بدمائهم وأنفسهم لنبقى ونعيش سادة أحرارا.‏‏‏