التحرير وما لا خلاف عليه



علي الصراف
(استراتيجية حد أدنى لوحدة المقاومة العراقية)  لا شك ان خلافات من نوع ما هي التي حالت حتى الآن دون وحدة فصائل المقاومة الوطنية والإسلامية العراقية. لقد مرت خمس سنوات على انطلاق المقاومة، وبالكاد أمكن لم شمل عشرات الفصائل بين ثلاث جبهات جهادية كبرى. ولكن الطريق ما يزال يبدو طويلا على وحدة هذه الجبهات نفسها.
هناك صعوبات ميدانية، أيضا يحسن أخذها في عين الاعتبار. فقادة هذه الجبهات لا ينعمون بالفرصة الكافية لبحث متطلبات الوحدة، أسسها، وآفاقها بينما هم يواجهون ظروفا أمنية أقل ما يقال فيها انها عسيرة.
ثم هناك الإعتبارات التكتيكية التي يبدو انها كانت حتى اليوم عنصرا من أهم عناصر البقاء. فالتفتت الظاهر بين فصائل ومجموعات المقاومة، لم يكن يعني انها تقترب من بيئتها المحلية، وترتبط بمحيطها الإجتماعي فحسب، ولكنه منحها القدرة على التصرف كبقع زئبق، تتجمع وتتفتت، حسب الظروف، فاذا تكسرت احداها تجمعت غيرها، وإذا خرجت من مكان دخلت في مكان غيره، وهكذا. وهو ما يعني ان التفتت الميداني ليس بالضرورة أمرا سيئا. بل انه ربما كان مفيدا للغاية، ليس لانه حفظ استقلالية تلك الفصائل، وبالتالي قدرتها على المبادرة فحسب، بل لانه حررها من القيود والضوابط، والمخاطر، التنظيمية أيضا.
هناك الاعتبارات الفردية أيضا. فلو لم يتصرف قادة الوحدات الصغيرة كأبطال كبار لما أمكن لهذه الوحدات ان تكتسب كل قوة الدفع التي تكتسبها في ميدان قتال غير متوازن بالمرة. والأبطال الكبار (وهذا حقهم) غالبا ما تحد التنظيمات الكبيرة من قدرتهم على الحركة، او تقلص حقهم الميداني في القيادة.
 
× × ×
 
كيف السبيل، إذن، لتحقيق وحدة تأخذ في نظر الاعتبار كل ميزات وفوائد التفتت؟
أحد أهم المداخل ربما، هي قبول الواقع، والنظر اليه بايجابية. إذ ليس مطلوبا من الوحدة بلوغ ذلك النوع من الانصهار الذي يؤدي الى تشكيل جيش جرار. آخر ما تحتاجه المقاومة في العراق هي ان تكون جيشا، او تنظيما هرميا، او كتلة ذات طبيعة محددة. الزئبق يجب ان يظل زئبقا. والتفتت يجب ان يستمر ويزداد. فمن خلاله تتفشى روح المقاومة. ومن خلاله تدخل بيئات محلية جديدة باستمرار في معترك النضال المسلح ضد الاحتلال.
الوحدة لن تكون مفيدة إذا انطوت على أي ضرر ميداني. ويجب تحاشيها في هذه الحال.
ومن الواضح هنا ان المفهوم التقليدي للوحدة لم يعد مناسبا. والشكل المعروف للجبهات والتحالفات قد لا يكون هو الآخر مناسبا أيضا.
لم تقدم التجارب الإنسانية السابقة الكثير مما يمكن الإستعانة به للجمع بين الحاجة الى الوحدة والتفتت. وسيكون من دواعي الشرف، بالنسبة للمجاهدين العراقيين، أن يشقوا طريقا خاصا بهم، وان يضيفوا الى تلك التجارب ما يستحق ان يُسطر في كتب التاريخ والأكاديميات العسكرية على انه السبيل الذي أدى الى الإطاحة بأعتى قوة عسكرية، وأكثرها وحشية، من دون جبال ولا غابات، ومن دون دعم من الخارج، ولا مساندة من شقيق، ووسط محيط يتسلل فيه الكثير من العملاء والمأجورين والمرتزقة.
في ظل ظروف معقدة، فان الإستراتيجية الأكثر فعالية ربما تكون أكثرها اقترابا من الواقع، وأكثرها ملامسة لمتطلباته. ولا تحتاج بالضرورة أن تكون هي نفسها معقدة.
والحقيقة، فان المقاومة التي انطلقت من أصدق المعايير الوطنية والجهادية لا تحتاج الى أكثر من هذه المعايير نفسها لتكون أساسا لوحدتها.
وما نقترحه بسيط. ولكنه، يستمد قيمته الجوهرية، من عمق المعاني التي تنطوي عليها تلك المعايير.
جميع فصائل المقاومة وجبهاتها، وعلى مختلف إتجاهاتها وتطلعاتها، تريد تحرير العراق من الإحتلال وعملائه ومأجوريه.
هذا هو الأساس الجامع الأول.
المعنى العملي لهذا الأساس يعني ان كل عمل من أعمال المقاومة يجب ان يصب الماء في طاحونة تحقيق هذا الهدف. وهو هدف غير قابل للتفاوض ولا المساومة ولا التسويات. يمكن القول للغزاة: اخرجوا بدباباتكم، وخذوا معكم كل الزبالة التي تم حملها على ظهور هذه الدبابات.
هناك قضايا تالية على هذا الهدف يجب أخذها في عين الإعتبار، انطلاقا من المبدأ الجامع: "باطل كل ما بني على باطل". وهو ما يفيد بإزالة كل آثار الغزو من اتفاقات وتشريعات ومؤسسات باطلة.
ثم هناك القضايا المتعلقة بتقديم الإعتذار للعراق والتعويضات للضحايا وملاحقة مجرمي الحرب.
هذه هي العناصر الجوهرية للتحرير. وهي عناصر جامعة. ولا تتطلب جدالا ولا تعقيدات ولا فذلكات نظرية، ولا إبحارا زائدا في سديم البلاغة.
لنفترض جدلا ان الإسم الجامع الذي سيطوي بين جناحيه كل فصائل وجبهات المقاومة هو: "جبهة التحرير الوطني العراقية" أو "الجبهة الوطنية والإسلامية لتحرير العراق"، أو "جبهة الجهاد العراقي الموحد"...
هذه الجبهة، كائنا ما كان الإسم الذي تتفق عليه الجبهات الثلاث الكبرى، هي جبهة معايير وقيم بالدرجة الأساس؛ جبهة ما لا خلاف عليه من المعايير والقيم.
المألوف التقليدي من الخطوات الأخرى هو إعداد ميثاق وطني. ولكن ليس من الصعب التوقّع ان الخلاف سيبدأ من هنا. ومن هنا سوف تتعثر الخطوات.
المقاومة العراقية، إذا كان يجب ان تقبل واقعها كمقاومة وحدة وتفتت (او تعددية) في آن، وإذا كانت مقاومة خارجة عن المألوف، فانها لا تحتاج ان تغرق في سجالات المثقفين الفارغة حول الصياغات الفنتازية ولغة التسويات الملتوية لقول الشيء وعكسه.
صياغة ميثاق وطني، بالطرق المألوفة تتطلب فندق خمس نجوم. ومن الأفضل لو كانت جنيف هي المكان. ولكن، مما يؤسف له ان قادة فصائل الجهاد في بغداد والبصرة والرمادي والموصل والكوت.... وغيرها، لا يستطيعون الذهاب الى هناك.
والذين تتوفر لديهم القدرة (من فصائل المقاومة السياسية) على الإجتماع بحرية في الخارج، لا يجب ان يستبقوا، بصراحة، رفاقهم المتعفرين بالدم والتراب، ولا أن يتشطروا عليهم بالمؤتمرات والتنظيمات.
وهكذا، فان مدونة معايير وقيم أساسية تكفي. بضعة مبادئ جوهرية تكفي. معايير تقول على سبيل المثال: اننا نريد عراقا حرا، مستقلا، موحدا؛ نريد عراقا يجسد كل معاني التعددية السياسية والإجتماعية، ويحترم حقوق الأفراد المدنية، ويحفظ حقوق الأقليات، ويحترم قيم العدالة وسيادة القانون والمساواة بين العراقيين.
أسس كهذه، من ما لا خلاف عليه تكفي لكي تكون "جبهة التحرير الوطني..." هيئة معنوية جامعة وليس بالضرورة تنظيما ذا شكل محدد، ولا هيكلا هرميا. ولا حاجة حتى الى ان تكون هناك أية روابط ميدانية فيما بين أطرافها.
المسلمون في كل أصقاع الأرض، وعلى رغم كل خلاف بينهم، يوحدهم قرآن واحد. وكلهم، إيمانا به، مسلمون. والقرآن الكريم هو مقدس معايير وأخلاقيات وأحكام وقيم. ولكي يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكي يؤدي فروضه، ومنها الجهاد، فالمسلم ليس بحاجة الى ان يكون على رابطة تنظيمية مع أي مسلم آخر.
المقاومة إنطلقت في بعض جوانبها تنظيما. ولكنها انطلقت، بعض جوانبها الأخرى جهادا عفويا أيضا. وهي تفشت بين الأحرار وترسخت في قلوبهم، بناء على اعتبارات وطنية وجهادية من دون ان تكون في حاجة الى شكل تنظيمي محدد. ولولا الحاجة الى السلاح وتبادل الحماية والتنسيق الميداني، لكانت المقاومة أكثر "تفتتا"، أو بمعنى أدق، لكانت صلاة يصليها كل قادر على الصلاة. وهي بالفعل كذلك الآن.
والمرء يمكن ان يُصلي خلف إمام ويستمع الى موعظته، ولكنه يمكن أن يصلي في خلوته أيضا ويُصغي الى نداء قلبه. وفي الحالتين فانه يؤدي فريضة سليمة.
وهكذا، فما أن تتحدد المعايير، فان كل فرد وفصيل ومجموعة وجبهة، يحمل السلاح لمقاومة الإحتلال، ويقبل بما لا خلاف عليه، فانه سيكون طرفا في تلك الجبهة الموحدة، من دون ان يوحي ذلك بالضرورة وضعا قياديا لأحد على أحد. لأنها جبهة وحدات مستقلة. جبهة متساوين. جبهة رفاق سلاح. جبهة هدف واحد ومعايير مشتركة.
هذه الجبهة، لكي تتحول الى شخصية مادية ومعنوية ملموسة، ولكي يكون بوسعها ان تتحمل مسؤولية تمثيل الجميع، على حد سواء، فانها ستظل بحاجة الى ان تتجسد في "مكتب تنسيق" أو هيئة "ناطقين" او "لسان حال"، وسيكون من الحسن ان تضم شخصيات وطنية عامة، او حتى مستقلة يتم تكليفها بالسير على صراط تلك المعايير وحدها. ومن الواضح ان هذه الهيئة ليست هيئة قيادة عامة، ولا هيئة أركان مشتركة، بل مجرد هيئة "ممثلين" واجبهم الوحيد هو النطق باسم الجبهة انطلاقا، فقط، من هدف التحرير، وممّا لا خلاف عليه. أي، لا سياسة ولا أيديولوجيات ولا مواقف خصوصية ولا اختلافات.
معركة التحرير الفاصلة يمكن ان يخوضها كل فصيل من موقعه، بالتعاون أو من دون التعاون، مع أي فصيل آخر، إنما في مواجهة الغزاة وعملائهم ومرتزقتهم فقط. هذه هي ما يجب ان تكون الوجهة الوحيدة للقتال. والهدف من تلك المعركة الفاصلة هو أن يحكم كل طرف السيطرة على منطقة نشاطه المحلي.
الأحياء والبلدات والمدن لن تنخدع بمقاتلين ليسوا من مقاتليها على أي حال.
فإذا أزفت ساعة التحرير وصدحت به المآذن، فان مجلسا وطنيا عاما يضم كل قادة الجهاد، صغيرهم وكبيرهم، هو ما يتوجب أن يبدأ بوضع الأسس لدولة المستقبل.
برلمان الحرية هذا، إذا ما بدأ ممّا لا خلاف عليه، لن يصعب عليه أن يتوصل الى حل لكل ما يجوز فيه الخلاف.
 
× × ×
 
هذه الأفكار، ليست على أي حال، سوى استراتيجية حد أدنى. فقط من اجل العثور ولو على مربع مشترك واحد.
وهي بالتعريف (التحرير وما لا خلاف عليه) اختبار، على العظم، للصدقية.
فإذا عجزت فصائل وجبهات المقاومة عن الإلتقاء في هذا المربع الأول، فسيكون من حق كل الناس أن يثيروا أسئلة مشروعة عن وجهاتها.
الوطني الذي لا يجد مربعا واحدا يقف عليه مع وطني آخر، ليس وطنيا بالأحرى.
وما لم تكن الوطنية تضحية للآخر الوطني، واستعدادا للصلاة خلفه، ومؤازرته في المحنة، من اجل مصلحة الوطن العليا، فإن أحدا لن يكون بحاجة إليها.
ومن حيث المبدأ، فان طلب وحدة جبهات المقاومة يجب أن يُسعد كل الذين يضعون مصالح الوطن فوق مصالحهم الخاصة.
ثم، خمس سنوات من انتظار الإحسان تكفي.
وما لم يشكل منعطف الانتخابات في الولايات المتحدة (بكل ما يقترحه على الوجهين) حافزا للوحدة، ولوضع استراتيجية تحرير مشتركة، فان هذه الوحدة لن تأتي أبدا. وسيكون من حق الضحايا، البديهي، أن يبحثوا عن حركة وطنية تحررية جديدة.
كلنا نتحمل مسؤولية الفشل في الدفاع عن العراق قبل أن يقع ضحية للغزو. والضحايا قد يغفرون الفشل مرة، إلا أنهم لا يغفرون مرتين.
والذين يعرفون التاريخ، يعرفون ان منعطفاته، إذا جرفت، فانها تجرف بقسوة. وفي بركان الفوضى الراهنة، فان الدّعي وحده هو الذي يستطيع الزعم أي اتجاه سيأخذ.
والفرق بين أن تصنع التاريخ، وبين أن تكون ضحيته كبير جدا.