يد فلسطينية واحدة

 د. جهاد طاهر بكفلوني
بعد أن حصل الرئيس الأميركي جورج بوش على وثيقة تثبت أنه حصل على أعلى درجات الفشل في كل ما أقدم عليه من خطط جهنمية لتغيير وجه العالم ووسمه بالملامح الأميركية الخالصة, وبعد أن تلقى تهاني أصدقائه ومحبيه بهذا الإنجاز الكبير,

عادت نفسه تحدثه مرة أخرى للإقدام على ارتكاب مغامرة بل حماقة جديدة, وكأن الرجل أحسّ فجأة أن الوثيقة مزورة أو أن الحقيقة ليست كما ورد فيها, علماً أنه استفسر مرات كثيرة عن صحة التواقيع والأختام الموجودة عليها فأكد له كل من راجعه أنه لا يوجد أدنى شك في صحتها, ولم يتردد صاحب الطموح الدائم بالبقاء تحت الأضواء في استشارة أركان إدارته المخلصين له, والحق يقال إن الرجل قد حصد ثمرات إخلاصهم وولائهم, ونعم بمواسم عبقريتهم الخلاقة, وهاهي تلك المواسم دانية القطوف, إنها سمعة أميركية تبحث عن مستوى أخفض من الحضيض بعد أن ضاقت به وضاق بها, كره عالمي يتسع نطاقه يوماً بعد يوم للولايات المتحدة الأميركية التي تربعت على عرش كره الشعوب لها وليس لها منافس في الوقت الحاضر, ثقة مفقودة بالإدارة الأميركية ومطالبة مستمرة من قبل المواطنين الأميركيين لها بالكف عن جر البلاد إلى مستنقعات أخرى لم تحمل لها إلا الخسران المبين.‏

أشار عليه أركان إدارته بالسعي للظهور بمظهر الأب الشفوق الرحيم الذي يستطيع استيعاب أبنائه, ويتسع صدره الرحيب لهم وليس عليه إلا اللجوء إلى بؤر التوتر في العالم ودعوة المتنازعين فيها إلى طاولة الحوار ليتسنى له مد أفياء حنانه عليهم, وفي هذه اللحظة تبدأ عدسات التصوير عملها بالتقاط الصور الحانية الدافئة للأب الوديع الذي يرعى أبناءه, ويعود بوش إلى الأضواء ليشق طريقاً جديداً قد يتيح له الحصول على وثيقة تكون على نقيض الوثيقة الأولى وبالاتفاق مع بعض المزورين قد يتمكن من الحصول على اعتراف بأنه مازال قادراً على ملامسة سقف النجاح في بعض القضايا أو الاقتراب من هذا السقف في أسوأ الأحوال.‏

وبما أن القضية الفلسطينية هي القضية الأكثر حضوراً على مسرح الأحداث شديدة الغليان في العالم, فقد بادر (بوش) إلى دعوة رئيس السلطة الفلسطينية إلى (واشنطن) واستقبله في البيت الأبيض, وراح يقدم له الوعود بأن الدولة الفلسطينية الموعودة لن تبقى حلماً معلقاً بين السماء والأرض إلى أجل غير مسمى, وأنه سيمارس الضغط المطلوب منه على الساسة الإسرائيليين الذين يحسبون كما يصور لضغطه ألف حساب, فإذا قرؤوا في وجهه إمارات الغضب سارعوا على الفور لتنفيذ الرسالة الموجهة إليهم من قبله ونفذوا كل ما ورد فيها.‏

ولقد كان السيد محمود عباس على قناعة وهو يتأمل مجريات اللقاء أنه لن يفضي إلا إلى سراب لايحسبه الظمآن ماء لأنه يعلم أنه سراب فأعلن أن زيارته لم تسفر عن نتيجة ترتجى, ثم جاءت الأحداث التالية بوتيرتها المتسارعة لتثبت مدى ( جدية) الرئيس الأميركي, ومدى (الخوف) الإسرائيلي من غضبه!.‏

ردت الطفلة المدللة (إسرائيل) بارتكاب مجازر جديدة, ولن تكون المجزرة الأخيرة في (بيت حانون) إلا حبة في عنقود مكتنز حقداً لا محدوداً على أبناء شعبنا العربي الفلسطيني, ستنفرط حباته وبضوء أخضر من الإدارة الأميركية جرائم ومجازر متواصلة تبدأ ولا تنتهي.‏

والآن ماذا سيفعل هذا الأب الحاني وقد رأى كما رأى العالم كله تلك الأم الفلسطينية المتربعة مع صبيتها الصغار حول مائدة الإفطار تستقبل الوجبة الإسرائيلية الجاهزة وكانت موتاً زؤاماًِ هز الضمير الإنساني هزاً عنيفاً?!‏

قد يبرر هذا الخطأ الذي يراه بسيطاً بالقول إنه كان يقصد إرسال طعام أشهى لتلك الأم الشهيدة وأطفالها الشهداء, لكن الطاهي الإسرائيلي قرأ الوصفة على نحو خاطئ فدس الموت للأسرة المنكوبة بدلاً من الطعام الذي كان يريد (بوش) من خلال تقديمه أن يثبت للعالم حرصه على أبنائه حتى لو كانوا فلسطينيين, فلا يملك العالم إلا تدبيج قصائد الثناء على جوده وإنسانيته!. ومن يدري فقد يبادر (بوش) مرة ثانية إلى دعوة القادة الفلسطينيين ليقنعهم أنه ما زال قادراً على القسم أمامهم أن دولتهم سترى النور قبل أن يحزم حقائبه مديراً ظهره للبيت الأبيض مع نهاية العام الحالي!.‏

ما جرى ويجري في فلسطين من مجازر ترتكبها القوات الإسرائيلية الحاقدة يعطي الدليل القاطع أن (إسرائيل) لن تسمح بإقامة الدولة الفلسطينية مهما ادعت وزعمت أنها لا تمانع في قيامها, وعلى الفلسطينيين أن يفهموا أن (إسرائيل) هي عدوهم الحقيقي, وعليهم أن يتجهوا إلى قواهم الذاتية معتمدين على أنفسهم ووحدة صفهم ودعم أشقائهم العرب لهم, وليتركوا (واشنطن) التي لن تقطع الحبل السري الذي يربط (إسرائيل) بها, ولتتشابك الأيدي الفلسطينية يداً واحدة تقف في وجه العدوان الإسرائيلي الذي لن يوقفه إلا اجتماع كلمة الفلسطينيين ووقوفهم جبهة واحدة تضع حداً لعربدة إسرائيل وغطرستها.‏