الرهان على التغيير في البيت الأبيض بين ثبات الاستراتيجية وتحول الأسلوب

حنان حمد
أن تصف وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت غزو العراق بأنه أكبر سقوط للسياسة الخارجية الأميركية في تاريخها ما حطم صورة أميركا بسبب تلك الحرب وتعذيب المعتقلين، هو شهادة مهمة من سياسية مخضرمة لعبت دوراً لا يُستهان به في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة في حقبة الرئيس السابق كلينتون، وإضافة جديدة الى سلسلة الانتقادات التي وجهها ـ ولا يزال ـ عدد كبير من الخبراء والمحللين وبعض المراكز البحثية التي تصنع في مختبراتها السياسة الخارجية الأميركية وتتولى توجيه القرارات الاستراتيجية للإدارة والكونغرس، وهو أيضاً لا يخرج عن تقارير صادرة من قلب الإدارة وأجهزتها الاستخبارية والبحثية، وفي ذلك كله جهد يبذل للتنقيب عن عوامل الإخفاق الأميركي في العراق وتحديد أسباب هذه الإخفاقات والمسؤولين عنها، وكان آخرها التقرير الصادر عن أهم جهة تحليلية تابعة للبنتاغون حول قرار غزو العراق وتداعياته، والذي عدّ أن القرار وصل الى درجة الفشل الذريع، ويقول التقرير الذي أعده المعهد القومي للدراسات الاستراتيجية في كلية الدفاع الوطني الأميركية أن الحرب على العراق كلفت الولايات المتحدة خسائر باهظة في الأرواح والأموال والسياسات، ويعكس التقرير وجهة نظر المؤسسة العسكرية وليس الساسة قادة البنتاغون، وقد قوّم معدّوه ـ بناء على لقاءات أجروها مع كبار موظفي البنتاغون والاستخبارات ممن كان لهم دور في الغزو والتحضير له ـ الحرب على العراق تحت عنوان «خيار الحرب قرار غزو العراق وتداعياته»، وخلصوا الى أن الإخفاق الذي تكرس يفرض الحاجة الى إعادة النظر في كيفية عمل مختلف أجهزة الإدارة ومؤسساتها والتعاون فيما بينها، ووضع آليات لفحص قرارات الساسة وتقوية وزارة الخارجية والقرار الدبلوماسي في مواجهة مواقف جهاز الأمن القومي التي تجنح للخيار العسكري في مواضع كان يمكن للدبلوماسية والتفاوض أن يحققا خلالها نتائج أفضل.

وهاجم التقرير بشكل غير مباشر الرئيس بوش الذي كان قد طلب من وزير البنتاغون السابق رامسفيلد الإعداد لخطط مواجهة عسكرية مع العراق في تشرين الثاني 2001، وتخطى رامسفيلد وصديقه نائب الرئيس ديك تشيني رئاسة الأركان الأميركية، أي أنهما في قرار التخطيط للحرب لم يرجعا الى قيادة الأركان. ‏

وتأكيداً لما قالته أولبرايت جاء في التقرير أيضاً تحليل لتأثير الغزو في الولايات المتحدة، حيث اهتز مركز وهيبة الولايات المتحدة أمام دول العالم والحلفاء، وانهارت سمعتها الأخلاقية وزعامتها بسبب حربها واحتلالها دولة مسلمة وفضائحها في معاملة المعتقلين، في وقت كان للغزو والحرب ـ حسب التقرير ـ تأثير سلبي في جميع مجهودات الولايات المتحدة فيما سمي «محاربة الإرهاب» والتي تراجعت الى الخلف، حيث أعطيت للحرب على العراق الأولوية وباتت القوات الأميركية لاسيما «المارينز» والجيش تحت ضغوط عظيمة. ‏

ويضيف التقرير :«وحتى تزداد الصورة قتامة، فإن المجهودات التي استهدفت تحسين الأمن القومي الأميركي نتج عنها أن أصبح العراق مفرخاً للإرهاب»، ويزعم أيضاً أن إخفاقات الغزو شجعت إيران «لزيادة نفوذها» في الشرق الأوسط، وأنه رغم ما يسميه «التقدم الملموس» في الحالة الأمنية الناجمة عن عملية التصعيد، فنتيجة هذه الحرب مشكوك فيها وأصبحت أغلبية الأميركيين وأيضاً العراقيين يريدون نوعاً من الانسحاب الأميركي، بينما يذكر الخبراء ومحللو الاستخبارات بأن الشيء الوحيد الأسوأ من عراق فيه قوات أميركية هو عراق بعد انسحاب سريع للقوات الأميركية». كما يقر التقرير بأن السياسة الأميركية كانت مفلسة ولم تحقق الطموحات التي كانت تسعى إليها، بينما تتحمل الولايات المتحدة تكلفة الحرب برمتها(!) وينظر الجميع الى عدم شرعيتها. ‏

ويخلص التقرير الذي تقول مقدمته إن الهدف منه هو توضيح كيف اختارت الولايات المتحدة الغزو، وكيف سارت عملية اتخاذ القرار، وما يمكن عمله لتحسين تلك العملية، الى أن المجهودات الأميركية في العراق تمت عرقلتها بفروض خاطئة وأخطاء فادحة في التخطيط للحرب مع استمرارية عدم القدرة (العجز) على خلق ظروف أمنية مناسبة يمكن أن تؤدي الى إعادة بناء «حكم مستقل». ‏

وإذا ضممنا الى تصريحات أولبرايت وما ذكره التقرير من عوامل إخفاق، ما يجري كشفه وبشكل متواتر من فضائح عن التضليل الإعلامي الذي رافق عملية غزو العراق وتداعيات الاحتلال عبر توظيف المحللين والخبراء وشراء الأقلام والأصوات سواء في الإعلام الأميركي أو بعض الإعلام الناطق باللغة العربية لتسويق الغزو وتزويق الاحتلال، وإعطاء الأعذار والتبريرات، وتشويه صورة المقاومة التي واكبت الاحتلال وتصدت له منذ شهوره الأولى، إذا نظرنا الى هذا كله فإننا لا يمكن أن ننكر أهميته في سياق النقد والتحليل وكشف عورات الاحتلال، لكننا أيضاً لا يمكن أن نأخذه في سياق نقد ذاتي موضوعي يحمل الى مراجعة السياسة الأميركية ككل ويدفع الى انقلاب يتحول بهذه السياسة من مندرجاتها السلبية، الى خانة توظيف الإمكانات الهائلة للولايات المتحدة كقوة عظمى بهدف تحويلها من مشروع امبراطورية مسيطرة ومهيمنة، الى قيادة كفؤة ومسؤولة تساعد على الاستقرار العالمي ونهوض النظام الدولي بما يخدم مصالح المجتمع الدولي ومن ضمنها بالطبع مصالح الولايات المتحدة، كما أنه لا يمكن أن يدفعنا الى الاعتقاد بأن تغيير الإدارة من جمهورية الى ديمقراطية يمكن أن يحقق ولو قدراً مقبولاً من هذا الانقلاب المرجو، ويعود ذلك الى نقطة أساسية ومهمة وهي أن الخلفية السائدة لما يوجه من انتقادات لأداء إدارة بوش في غزوها للعراق وتعاملها مع قضايا المنطقة العربية والإسلامية، لا تعود الى رغبة في نقض استراتيجية هذه الإدارة تجاه المنطقة بقدر ما تعود الى انتقاد للأسلوب المتبع في بلوغ هدف هذه الاستراتيجية، فإذا عدنا الى تصريحات أولبرايت مثلاً والتي تتحدث عن فقدان الولايات المتحدة في السنوات السابقة «شرعيتها الأخلاقية» لا نملك إلا أن نستذكر أنها استهانت إبان حكم إدارة كلينتون بسقوط مليون طفل عراقي في الحصار المفروض على العراق مادام الهدف هو سقوط نظام صدام، ما يسلط الضوء مجدداً على ازدواجية النظرة بين أن يكون المرء داخل السلطة وجزءاً منها، وبين أن يكون خارجها... أما بالنسبة لتقرير المعهد القومي للدراسات الاستراتيجية فلا يمكن لدى قراءته إلا استعادة تقرير فينوغراد الذي دان أداء أولمرت وأركان حربه في عدوان تموز 2006، ليس لما ارتكبه من جرائم وانتهاكات بحق ضحايا هذه الحرب العدوانية، بل لسوء الأداء الذي قاد الى هزيمة هذا العدوان. ‏

كما أننا ينبغي أن نركز على مواقف الديمقراطيين بصورة عامة وعلى المرشحين للرئاسة بشكل خاص، لأن هذه المواقف تكشف وبشكل صريح أن معارضة سياسة بوش في العراق تقع في إطار الاستراتيجية نفسها القائمة على الهيمنة الأميركية على أكثر المناطق أهمية وحساسية في العالم، ليس بسبب ثرواتها النفطية فحسب، بل لموقعها الاستراتيجي على تخوم الصين والهند وروسيا الناهضة كقوى مستقبلية منافسة مؤثرة على النظام العالمي، فالديمقراطيون لم يقوموا مثلاً بأية مراجعة نقدية لفكرة الامبراطورية الأميركية، أو لفكرة استخدام القوة ومشروعية الحروب الاستباقية، كما لم تحدث أية مراجعة جدية للأسس القانونية والأخلاقية والسياسية التي قام عليها غزو العراق واحتلاله، فجاء النقد الديمقراطي من على الأرضية الفكرية نفسها، ووفقاً لمنظومة المشروع الامبراطوري التي صاغها المحافظون الجدد، وما طرحه هذا النقد هو الميل لاستخدام الأدوات الاقتصادية والقوة الناعمة، وتفضيل عسكرة أقل للسياسة الخارجية الأميركية. ‏

من هنا، فإن الرهان على تغيير حقيقي تحمله الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة يبدو مشوباً بالكثير من الشكوك، وما على الراغبين في مثل هذا التغيير ـ وبخاصة المتضررين بشكل مباشر من سياسة الإدارة الحالية وأعني العرب ـ ليس انتظاره من بوابة واشنطن، بل من تفعيل أوراق القوة التي يملكونها وهي عديدة ومتنوعة وقادرة على صدّ المشروع الأميركي إن لم نقل إسقاطه. ‏