السياسة الأميركية مختومة بفلسفة ليو ستراوس

 الدكتور نسيم الخوري
هل أنّ الهوّة التي يعرفها الساسة المخضرمون قد ردمت بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أميركا بمزيد من الإمعان في فكر المحافظين?

وكيف تكون الحال بعدما يغادر بوش البيت الأبيض هذا إن غادر على حدّ بعض التحليلات الجدّية والمضحكة بالطبع والتي تقول بتعثّر الانتخابات الأميركية بمعنى لبننتها ? أو كيف يكون الحال إذا ما تمكّن الجمهوري جون ماكين من البيت الأبيض, على الرغم من تفاؤل بعض العرب بهذا الانتقال والتمكّن?‏

للإجابة على هذه الأسئلة, يفترض التذكير بأسلحة الدمار الشامل, والإرهاب, والتهريب الدولي وتبييض الأموال, الديموقراطية, الحرية ومسألة النظم السياسية أي المفاتيح الخمسة اللامعة التي كانت تبدو بين أصابع الرئيس الأميركي بوش وهو يقرع أبواب الشرق الأوسط, وغيرها من دول العالم ومن خلفه حلقات المحافظين الجدد.‏

وإذا كانت هذه المفاتيح معلّقة بسلسال ذهبي حاولت أنظمة بعض الدول أن تُدخل فيه مزهوة حلقات تلو حلقات, فإن الشعوب لم تخرج قطعاً الى الشوارع في دمشق والقاهرة وبغداد وبيروت وطهران ومجمل العواصم العربية والإسلامية الأخرى لتحيّة أميركا. بل استلّوا إمّا السبحات أوالسلاح والموقف الرافض لأنّ أخطاراً خمسة أخرى كانت تبدو أمامهم, ترشح من أميركا التي راحت تمدّ بها بلاط النظام الدولي الجديد وهي: القوة العسكرية المحصورة بأميركا تحديداً , الإستيلاء على النفط , حماية إسرائيل( بالرغم من أنها بلغت الستين وهي تسبح في دماء الفلسطينيين ودموع العرب, منع أي قوّة عظمى من الظهور,العبث بالقيم والأديان والحضارات الأخرى لمصلحة القيم الأميركية.‏

إذا,ً مقابل حدود النجمة الأميركية الخمسة حدود خمسة أخرى , يسهل إدراكها في تقفي الخطى العسكرية للحزب الديمقراطي الأميركي بين أفغانستان والعراق وإيران وكوريا الشمالية, وهي بدت واضحة أساساً في دليل التخطيط العسكري( الذي وضعه بول وولفويتز بعد إنقضاء الحرب الباردة (1991), مركّزاً فيه هذه النقاط الخفيّة لاستراتيجيات الولايات المتحدة الأميركية, وطارحاً بغداد وبيونغ يانغ أهم خطوتين فيه وأولهما لامتحان القوة الأميركية. وعندما تسرّبت وثيقة الدليل, حرص البيت الأبيض على إعادة صياغتها مسقطاً منها مبدأ حصر القوة باميركا,وكانت الخطوة الأولى قيادة جورج بوش الأوّل حرب تحالف ال33 دولة على العراق لإخراجه من الكويت معلنا بذلكً قيادته للعالم.‏

هكذا استمرّ عدد كبير من الباحثين وأساتذة الجامعات يضعون خططهم وأفكارهم لرسم السياسة الأميركية, علماً أنهم كانوا خارج الإدارة في عهد بيل كلينتون, وقد تكتّلوا كما هو معروف بإسم ) المحافظين الجدد(. وكانوا على ارتباط وثيق ب American enterprise institue أي معهد المشاريع الأميركية.. وقد باتت أسماؤهم معروفة, خرج بعضهم من البيت الأبيض مستقيلاً مشوباً بالندم والخيبة, وأبرزهم جيمس وولسلي(المدير الأسبق للمخابرات الأميركية), ريتشارد بيرل, دوغلاس فيث, إيليوت أبرامز, وولفويتز, إيرفنغ كريستول, مايكل لادين , وتشبّث البعض الآخر الى اليوم بفلسفة هذا المعهد وعلى رأسهم ديك تشيني وإيليوت أبرامز ووليام كريستول وراندي شونينمام وهذان الأخيران يتشبثان بالمرشح الجمهوري جون ماكين الناري المزاج بالرغم من تقدّمه في السن, ويدفعانه من موقع المحافظ الواقعي الى المحافظ المتطرف الذي يقدّس علاقته باسرائيل, وهما يحلمان معه بمواصلة فرض القوة العسكرية في حلّ مشكلات العالم, وإخراج روسيا من مجموعة الثماني الكبار, ولربّما شنّ الحرب على إيران ومحاصرة الصين كدولة عظمى متقدّمة تهدد فرادة الولايات المتحدة الأميركية كدولة عظمى وحيدة في الألفية الثالثة كما يتطلعون!‏

يعتبر هذا المعهد من أهم مراكز الأبحاث الإستراتيجية في الولايات المتحدة الأميركية, وهو فاعل في رسم السياسات الأميركية منذ أنشأه( لويس براون( في العام 1943 , ومعروف عنه طول باعه في إيصال الباحثين فيه الى السلطة. وقد أسس هؤلاء الباحثون المحافظون, بالتعاون مع شركات النفط الأميركية ومصانع الأسلحة الضخمة في أميركا, منظمتهم التي لا تتوخى الربح وتعمل على جعل أميركا قائدة العالم, وتغيير الأنظمة غير المرغوب بها في العالم , والسيطرة النهائية على منابع الطاقة , وعسكرة الفضاء, الى ما هنالك من عناوين كبرى واسعة جاءت بعنوان: الزمن الأميركي الجديد.‏

ولهذا كان من الطبيعي قراءة هذا الإعتداد الدولي الأميركي, وهذه العناوين الكبرى في تطلعات باحثيها ومفكّريها, وخصوصاً المحافظين منهم اللذين يعتبرون كلّهم من أتباع ليو ستراوس , الصديق الحميم للويس براون صاحب المقاولات Entreprise السياسية الأميركية المشار إليه.‏

من هو ستراوس?‏

يهودي ,أستاذ جامعي, ترك المانيا النازية الى أميركا (1940) , وراح يحاضر في جامعة شيكاغو, ويشرف على أطاريح الدكتوراه في الميادين الفلسفية. وقد أسس لفلسفة الصقها اسمه أي التراوسية بفضل طلابه الذين تحمسوا كثيراً لأفكاره/ فلسفته التي منها يرشح الفكر والسلوك الأميركي المعاصر , والذي نعاينه تباعاً في منطقتنا وفي العالم.‏

ما هي مختصر تعاليم ستراوس? ثلاثة نقاط:‏

1- يعيد ستراوس الاعتبار للفلسفة بمعانيها التقليدية, بعدما كادت تفقد رونقها وعظمتها أمام ضحالة فلسفة الحداثة. فالأفكار الخاصة بالحداثة طوباوية , لذا فإن تخليص الفلسفة من براثن الحداثة التي فتحت نوافذ المعرفة للعاديين من البشر وقللت من شأن الفلاسفة, يكون في دفع الفلسفة مادةً كبرى في تكوين القرار السياسي: الفلسفة سياسية أساسها القوة.‏

2- الدين هو ملاط المجتمعات وعقيدتها وخصوصاً العسكرية منها. ولا يجازف الناس بارواحهم إلاّ إذا كانوا موعودين بالجنّة, ولا إشاعة للأخلاق والأفكار خارج دوائر العقيدة الدينية, لذا يدين ستراوس الفكر العلماني الذي دمغ طموح البشر منذ نابليون, وأورث الفردانية والليبرالية التي تعزّز المعارضة وتؤدي الى ضعف المجتمعات. وليس الدين للحكّم والمفكّرين بل هو للعامة من البشر, وهو الأداة في تهشيم الشعوب وتقاتلها ولهوها عن الأفكار الأخرى.‏

3- لا مكان للأخلاق في السياسة, بل للخداع والكذب وفنون المراوغة والتسويف. وتقتصر الحقيقة على النخبة الباحثة الحاكمة بمبدأ أنّ القوي يحكم الضعيف. ولا تؤول السياسة الى خواتيمها النبيلة إلاّ بجرّ القادة الى الدخول في محور الشرّ والإستغراق فيه.‏

يخرج جورج بوش أو يستعدّ للخروج من البيت الأبيض معلّقاً بسنساله أموالاً طائلة تدخل الجيب الأميركي وجيب حزبه فتعوّض الحرج من التواءات السياسة التي اعتمدها, بل تؤهل حزبه أكثر للإنتخابات التي قد لا تباعد كثيراً بين الجمهوريين والمحافظين في مستقبل السياسة في العالم, لكنها سياسة سبق له ودمغها بالقول بيهودية الدولة الإسرائيلية التي سنفهم أبعادها الخطيرة في المستقبل والتي سيتوّجها بعودته الى المنطقة, مشاركة اسرائيل احتفالها الواسع ببلوغها الستين.‏

جاء في كتاب أميركا بين الحق والباطل: في تفنيد القومية الأميركية لأناتولي ليفن, زميلنا في التعليم الجامعي في كامبردج أن العالم قد يتطلّع بحنين نرجسي الى بوش في ما لو انتخب جون ماكين رئيساً لأميركا. لماذا?‏

لأن سياسة أميركا مختومة بخاتم ليو ستراوس.‏

* كاتب وأستاذ جامعي لبناني‏

رئيس التكتل الوطني الديمقراطي‏

nassim.khoury@gmail.com‏