عنــدما يبكي بــوش

د. محمد احمد النابلسي
بعد ثلاثين عاماً على نهاية حرب فيتنام نشرت المحابرات الاميركية ملفات الحرب ومواقف الرؤساء منها. والملفات متاحة لمن يريد على شبكة الانترنت. وفيها أن الرئيس ليندون جونسون كان ينهي خطاباته الحماسية الملتهبة بشأن النصر في فيتنام ثم ينسحب الى غرفته ليبكي بكاءً مراً ويلوم مستشاريه ومساعديه الذين أوقعوه في هذه الورطة. أما الرئيس ريتسارد نيكسون فكان لديه أسلوب آخر في التعامل مع ضغوط الحرب إذ كان يلجأ الى الخمرة لينسى همومه الرئاسية. وهو ما أكده الفيلم الذي صور حياة نيكسون.
قبل عقد أية مقارنة فان الأمانة تقتضي التنويه بالفارق الشخصي والذكائي والاستراتيجي بين نيكسون وبوش. فهما يلتقيان فقط لجهة معاقرة الخمرة خلال الأزمات.
بوش من جهته لم يرد ان يتركنا ننتظر ثلاثين سنة أخرى لنعرف ما الذي يفعله بعد خطاباته الجبارة حول النصر في العراق أو حول دعمه للسنيورة. فقد ملك الرجل الشجاعة الادبية للإعتراف علانية بانه كان يصطنع وعود النصر هذه في حين كان في الواقع يخشى الهزيمة. وصحيح انه لم يعترف جهاراً بعودته لإدمان الكحول وهي عودة طبيعية لمدمن سابق يتعرض لضغوط فائقة. وكنا قد أعلنا هذه العودة منذ سنوات بناء على قراءة ملامح وجه بوش. لتعود صحيغة يديعوت أحرونوت وتفضح سلوك بوش خلال سكرة أثناء زيارته لمنزل صديقه أولمرت في جولته الشرق أوسطية الأخيرة.
الإعتراف البوشي لم يصل الى حدود الاعتراف بالهزيمة في العراق أو في الحرب ضد الإرهاب وذلك لسبب يتيم وأوحد هو عدم اضطراره لمثل هذا الاعتراف. فهو سيورث هذه المشاكل لخليفته ويهرب في اللحظة المناسبة من حسابات الحروب وتكاليفها المادية والبشرية. كما يهرب من انعكاساتها على ازمة الاقتصاد الأميركي السائر بقوة نحو الركود. اما في الحسابات الإنسانية فان المراكز الصحية الاميركية تقول بحاجة المقاتلين في العراق وافغانستان لرعاية صحية ونفسية على مدى الخمسيم سنة القادمة.
هل يفهم الآن العرب من أصدقاء بوش لماذا هرب الديموقراطيون من الانتخابات القادمة؟. فهم رشحوا ملوناً وإمرأة. والأميركيون لا ينتخبون ملوناً ولا إمرأة ختى ولو كانت هيلاري كلينتون. هل يفهم هؤلاء العرب أن الديموقراطيين هربوا تاركين مواجهة الأزمة للمرشح الجمهوري ماكين الفائز حكماً بالانتخابات القادمة؟.
السيد وليد معلوف من أعضاء اللوبي اللبناني اليهودي في اميركا ،الذي يقود طارئي السياسة الحاليين في لبنان ويتحكم فيهم، ينقل لنا بشرى وعد ماكين له بانه سيعمل للقضاء على سلاح حزب الله في حال فوزه بالانتخابات!؟. وتناقلت وسائل الاعلام اللبنانية والعربية المعلومة التمويل هذه البشرى لتقدمها كصك كفالة لجمهورها المحقون الخائف من الحالة التي وصل اليها من الشحن.
لاحظوا أن ذكاء بوش وانجازاته الاستراتيجية قد حولت رئاسة أكبر دولة في العالم الى مرض معد يهرب منه المرشحون ويخشون الفوز به فهل هي لعنة العراق؟.
لاحظظوا ان أهم الاختراقات المخابراتية الاميركية قد حصلت عن طريق المطالبة بحقوق المرأة والأقليات. وهم مصرون لغاية الآن على حق المرأة السعودية بقيادة السيارة في حين يرفض الأميركيون انتخاب إمرأة. بل أنهم يرفضون اعطاء اية إمرأة دوراً قيادياً في شركاتهم الخاصة الكبرى.
أما عن مناصب كوندي رايس ومادلين أولبرايت فهي من ضمن الديكور ليس إلا وهو ذاته الديكور الذي سلم وزارة الخارجية الى السود كولن باول ليعود فيذله أسوأ إذلال بإعتراف باول في مذكراته.
ولمن يريد التعمق في العنصرية السياسية الممارسة في اميركا ننصح بالعودة الى مذكرات رئيس المخابرات الأميركية خلال حوادث سبتمبر 2001 وهو حورح تينيت. وتشير المذكرات الى انه قام بواجباته ووضع ملف التهديدات الارهابية على طاولة بوش ومع ذلك وقع تينيت كبش محرقة فتمت اقلته بصورة مذلة. وذلك بسبب أصوله اليونانية فهو ليس آرياً أبيضاً بروتستانتياً من العرق المتفوق. ولو كان تينيت كذلك لكان بوش نفسه كبش المحرقة. بل أن وكالة المخابرات كانت لتفكر باغتياله كما فعلت قبل ذلك مع الرئيس الكاثوليكي كينيدي.
لاحظوا أيضاً أن المخابرات الاميركية لا تزال مصرة على انشاء فيديراليات خاصة بكل اقليات منطقتنا في حبن أن جمهورها يرفض اعطائ الحقوق للأقليات ويرفض انتخاب ملون أو مرشح آخر من الأقليات!؟.
إن ما أعلنه بوش يعادل الاعتراف بتراجع قدرة اميركا على حماية مصالحها في المنطقة. ومن يعرف السياسة الاميركية وسوابقها يدرك ان هذا الاعتراف يساوي عرض رؤوس حلفاء اميركا للبيع الى الجهات القادرة على المساعدة في لملمة التراجع الاميركي. ان هذه الرؤوس معروضة اليوم للبيع في أية صفقة قادمة.
إنه الإنقلاب الذي يبشر به بوش لينفذه خليفته من بعده. ويبدأ الإنقلاب بقائمة الشروط والضغوط الأميركية القاسية على الحلفاء والأصدقاء. ومنها على صعيد اصدقاء الدرجة الثانية دفع المالكي لإشعال إقتتال أهلي ليجد جيشه منقسماً متمرداً. كما يدفع بعباس لقبول صفقات تجويع الفلسطينيين وحصارهم فيكاد يفقد الضفة بعد فقدانه قطاع غـزة. أما السنيورة فهو يخاول التفوق على الإثنين وعلى نفسه من خلال بقائه في الحكم متحملاً مسؤوليات ربما لا يدري خطورتها لغاية الآن. فالمهم انه ينفذ الرغبة الاميركية بالبقاء في تحمل مسؤولياته كموظف برتبة مدير مصرف نعار لرئاسة الوزراء.
أصدقاء اميركا العرب وبخاصة الثلاثي عباس المالكي والسنيورة ذاهبون ضحية صفقة يعقدها بوش مع خليفته لينفذها بعد اختفاء بوش عن المسرح السياسي. فاذا ما نجوا فهم ضحية المغامرة التي قد يقدم عليها بوش خلال آخر سكرة له في البيت الأبيض. ومن يعش يرى...
 
رئيس المركز العربي للدراسات المستقبلية