طفرة التسوق العظيم عند الامريكيين انتهت إلى غير رجعة

 
بسبب الشلل الذي أصابنا جراء الاضطراب الحاصل في الأسواق المالية، فإننا قد نغفل أكبر خبر اقتصادي لهذا العام: نهاية طفرة التسوق الأمريكي. فعلى مدى ربع القرن الماضي، شارك الأمريكيون في حفل استهلاكي غير مسبوق – مشترين السيارات وأجهزة التلفزيون ورحلات الاستجمام الأطول وأي شيء آخر تقريبا. وقد كانت نتائج هذه الطفرة عميقة لكل من الولايات المتحدة وبقية العالم، ولكن الانتقال إلى شيء مختلف ومجهول قد لا يمثل أي تحسن.
 
      فقد كان سيل الإنفاق الاستهلاكي المتزايد الاتساع هو الذي دفع الاقتصاد الأمريكي قدما، وبمستوى أقل، فإن ذلك هو الذي دفع الاستهلاك العالمي كله (السبب: الواردات أشبعت موجة الشراء الأمريكية المحمومة). كم كان حجم اندفاعة الاستهلاك؟ تمعن في التالي. في العام 1980 أنفق الأمريكيون 63 بالمائة من الناتج القومي (الناتج الإجمالي القومي) على السلع الاستهلاكية والخدمات. ولكن الإنفاق الاستهلاكي في السنوات الخمس الماضية بلغت نسبته 70 بالمائة من الناتج القومي الإجمالي. وبمستويات الدخل الحالية، فإن الفرق يساوي ما قيمته تريليون دولار سنويا على شكل إنفاق استهلاكي أعلى.
 
      إن قول أن طفرة الشراء قد انتهت لا يعني أن كل مركز تسوق في أمريكا سيغلق أبوابه. ولكنه يعني أن المستهلكين لن يعودوا يمثلون المحرك الموثوق به لبقية الاقتصاد. فتوسع الاستهلاك يتطلب من الأمريكيين أن يدخروا مقادير أقل والاقتراض أكثر والإنفاق أكثر؛ إلا أن هذه الدورة على ما يبدو قد انتهت. فالإنفاق الأمريكي سينمو بسرعة نمو المداخيل – لا أسرع من ذلك كما كان الأمر سابقا – بل وقد يكون أبطأ كثيرا. النتيجة: من دون مصدر نمو آخر (استثمارات مرتفعة، صادرات؟) فإن الاقتصاد سيتباطأ.
 
      أسباب اندفاع الأمريكيين بتلك الصورة في إنفاقهم الاستهلاكي لا زالت موضوعا للكثير من الدراسات والأبحاث. ففي كتاب جديد Going Broke "إعلان الإفلاس"، يجادل ستيوارت فايس من كلية كنتاتيكت بأن ما حدث في أمريكا هو فقدان جماعي لضبط النفس، مدعوم بتقنيات وممارسات تجارية جديدة جعلت من الأسهل علينا الانغماس الفطري في أعمال الشراء الاستهلاكي. بطاقات الاقتراض المنتشرة في كل مكان في الفضاء الإلكتروني (آخر عدد لها في أمريكا هو 1.4 بليون بطاقة) مثلت فاصلا مريحا بين متعة الشراء وألم تسديد الثمن. وكذلك فإن الشراء من الكتالوغات على أرقام تلفونية مجانية وأقنية التلفزيون المتخصصة في تسويق المواد الاستهلاكية والمشتريات التي تتم على الإنترنت لا تتطلب حتى القيام بمشوار قصير إلى محلات التسوق. وكذلك فإن "التخفيض" الواسع الانتشار يخلق الانطباع بوجود صفقات لا سابق لها بصورة مستديمة.
 
      وهناك بعض الحقيقة في هذا. ففي العام 1976، بدأت محلات "أل أل بين" في قبول بطاقات الاقتراض على خطوطها التلفونية المجانية؛ وبعد بضع سنوات من ذلك، حققت مبيعاتها أرقاما صارخة في ارتفاعها. ولكن طفرة الشراء الأخيرة ربما كانت لها أسباب أكثر مباشرة. أحدها كان "تأثير الثروة". انخفاض التضخم في مطلع الثمانينات (في العام 1979، ارتفعت الأسعار بنسبة 13 بالمائة) أدى إلى معدلات فائدة أخفض – وهذه أدت إلى ارتفاع في أسعار الأسهم، ولاحقا، في رفع أسعار المنازل. ودخل عدد أكبر من الأمريكيين في تجارة الأسهم؛ فأرقام حسابات الزبائن في شركات الوساطة المالية ارتفعت من 9.7 مليون في العام 1980 إلى 97.6 في العام 2000. واعتبر الناس ثروتهم التي بدا وكأنها ثروة عثروا عليها أخيرا بديلا للادخار السنوي، وهكذا بدأوا ينفقون أكثر من مداخيلهم السنوية ويقترضون أكثر، خصوصا مقابل قيمة منازلهم الأعلى.
 
      وكذلك فإن "دورة الحياة" (وهو ما يعني العوامل الديمغرافية) شجعت هي الأخرى هذه الطفرة الشرائية الاستهلاكية. فالناس يقترضون وينفقون أكثر في ثلاثينات وأربعينات حياتهم، وهم أيضا يشترون المنازل ويربون الأطفال. في سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم، كان الكثير من أبناء طفرة المواليد يمرون بذروة سنوات إنفاقهم. وهو ما عزز من عامل تأثير الثروة. وأخيرا فإن "دمقرطة الإقراض" أسهمت هي الأخرى في دعم طفرة الشراء تلك. فبنهاية الحرب العالمية الثانية كان من الصعب على غالبية الأمريكيين الحصول على قروض بنكية. ولكن منذ ذلك التاريخ تم تحرير كل أنواع القروض من القروض العقارية إلى قروض شراء السيارات وحتى بطاقات الاقتراض الشخصية. وإضافة إلى ذلك حصل توسع مطرد للإقراض لجماعات جديدة. فبحلول العام 2004، كان ثلاثة أرباع الأسر الأمريكية تتحمل الديون.
 
      وما هو مهم ملاحظته هنا هو أن كل هذه القوى التي كانت تدفع باتجاه الكثير من الدين والإنفاق بدأت تتراجع. فقد انفقأت "فقاعتا" الأسهم والعقارات. ولشعورهم بأنهم أفقر، فإن الناس ربما يبدأون بتوفير مقادير أكبر من مداخليهم؛ هذا فضلا عن أنه أصبح من الأصعب الاقتراض مقابل قيم المنازل الأعلى. وكذلك فإن الصورة الديمغرافية تبلغنا قصة مشابهة. فتقول سوزان ستيرن من مؤسسة إيكونوميكس أناليسيس أسوسييتس إن "إنفاق دورة الحياة ينخفض لدى الأفراد الذين هم في عمر 55-64 عاما – فهم يقترضون أقل ومداخيلهم تصبح اخفض وهو ما بلغه نمو أسرنا اليوم". وتضيف أنه "بعد العام 2010، سيصبح النمو هو في فئة أعمار الأسر التي بأعمار 65-74 حيث تكون المداخيل حتى أدنى".
 
      وماذا عن "دمقرطة الإقراض؟" حسنا، فرسالة أزمة الرهون العقارية هي أنها أزمة استفحلت أكثر من اللازم. فإلى حد ما كان انتشار الإقراض نعمة. فقد ازدادت ملكية المنازل؛ وأصبح لدى الناس مزيد من المرونة في التخطيط للمشتريات الكبيرة. ولكن المسوقين المقدامين – والمسيئين غالبا للأنظمة – باعوا القروض لأناس لا يستطيعون تدبر أمرها. ولم تتبق هناك أسواق اليوم للمستهلكين الذين يستوفون شروط الحصول على القروض ممن لم يحصلوا عليها، بل واقع الأمر أن الكثير من الأمريكيين بالغوا في الحصول على القروض. ففي العام 2007 بلغت قيمة الديون المستحقة على الأمريكيين (بما فيها قروضهم العقارية) 14.4 تريليون دولار، أو 139 بالمائة من المداخيل الشخصية التي في المتناول. وحتى وقت ليس بالبعيد، وهو العام 2000، كان ذلك الرقم هو 7.4 تريليون دولار أو 103 بالمائة من المداخيل.
 
      إن تراجع الإنفاق الاستهلاكي الناتج عن كل هذا قد بدأ يستشعر. فصحيفة نيويورك تايمز نشرت تقريرا الأسبوع الماضي بعنوان "سلاسل محلات المفرق وجدت نفسها في خضم موجة من الإفلاس." بل إنه حتى محلات المفرق التي ظلت صامدة قد تعمد إلى تقليص أعمالها. وقالت الصحيفة إن شركة "فوت لوكر" ستعمد في العام القادم إلى إغلاق 104 من محلاتها، وستقوم محلات زيلز للمجوهرات بإغلاق 100 من محلاتها.
 
      ما الذي يستطيع الحلول محل الإنفاق الاستهلاكي المحموم كمحرك للنمو الاقتصادي. البعض يقول إنه الرعاية الصحية. ولكن هذا هو محض خيال. صحيح أن الإنفاق على الرعاية الصحية سيزيد. ولكن توسع هذا الإنفاق سيحل فقط محل أشكال أخرى من الإنفاق الاستهلاكي والحكومي، لأن هذا الإنفاق سيتم دفع تكاليفه عن طريق ضرائب أعلى أو دفعات تأمين أعلى لشركات التأمين. وكلاهما يقلصان من القوة الشرائية. الصادرات الأعلى هي إمكانية أخرى معقولة؛ ولكن هذه مع ذلك ستعتمد على درجة عافية الاقتصاد العالمي من دون سند التمكن من تصدير قدر أكبر من الصادرات إلى الولايات المتحدة. الإمكانية الأخرى: طفرة استثمار في تقنيات جديدة.
 
      ولكن ماذا لو أن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال هي "لا شيء"؟ وفي هذه الحالة فإن لا شيء سيحل محل طفرة الاستهلاك المدفوع بالدين. وما سيعقب ذلك ستكون فترة مطولة من النمو الضعيف وتوفير فرص العمل المحدود. إنها فكرة تدعو للتيقظ. ولكن سواء كان ذلك أمرا جيدا أم سيئا، فإن بداية نهاية طفرة الشراء تؤشر إلى أن الاقتصاد الأمريكي قد بلغ منعطفا حرجا. وهو وضع سيمثل تحديا للرئيس القادم بطرق ربما لم يتأملها أي من المرشحين الرئاسيين حتى الآن.
 
لأكثر من عقدين من الزمن، كان المحرك هو مستويات مرتفعة من الدين. ففي نهاية 2007، كان اقتراض الأسر الأمريكية قد بلغ رقما مذهلا هو 14 تريليون دولار
نيوزويك