ما وراء المفاوضات





فادي الحسيني
قبيل مغادرته مقعد رئاسة الحكومة الإسرائيلية، صرح إسحق شامير أن خلاصة ما كان يهدف إليه في مفاوضات مدريد هو كسب المزيد من الوقت مع استمرار تغيير أو خلق واقع جديد على الأرض. لقد كان الضغط الأمريكي آنذاك على إسرائيل في قضية ضمانات القروض الأمريكية أحد أهم أسباب موافقة حكومة شامير على مبدأ المفاوضات، ولكنها وضعت شروطاً مجحفة بحق طبيعة الوفد الفلسطيني المشارك، فرفضت أن يمثل الفلسطينيون أنفسهم بوفد منفرد بل بشكل مشترك مع الوفد الأردني، ورفضت مشاركة أي من أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، أو المجلس الوطني الفلسطيني أو فلسطيني الشتات وحتى فلسطيني القدس (الأمر الوحيد الذي تعدل لاحقاً). ورغم حجم الإجحاف الكبير في الشروط الإسرائيلية، إلا أن الفلسطينيين وافقوا على المشاركة في مفاوضات مدريد التي لم تحقق أي نتائج تذكر سوى مساعدة إسرائيل في تطبيع علاقاتها مع روسيا وجلب العرب للجلوس مع إسرائيل في اعتراف ضمني بوجودها. وما أن بدأت المفاوضات وإذ بوزير الإسكان الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون يعلن عن البدء في بناء وحدات إستيطانية جديدة في الضفة الغربية!!!
اليوم وبعد أقل من عشرين عاماً بقليل على مفاوضات مدريد نجد أن الحال لم يختلف كثيراً عما آلت إليه الأمور آنذاك، بحيث أن إسرائيل مازالت مستمرة في نهج لم ينقطع منذ أن أعلنها شامير مروراً برابين ونتينياهو وباراك وشارون وصولاً إلى أولمرت وهو كسب المزيد والمزيد من الوقت لتغيير الوضع على الأرض قبل الوصول لأي تسوية نهائية، فما أن انتهت المبادرة الأمريكية في أنابوليس لدعم المفاوضات، وإذ بإسرائيل تعلن عن استمرار مشاريعها الإستيطانية وأخرها طرح وزارة الإسكان عطاء مشروع بناء مساكن جديدة في الضفة الغربية قبل عدة أيام، ورغم كل التحذيرات الأمريكية الخجولة وامتعاضات السلطة العديدة ، إلا أن إسرائيل مستمرة في سياساتها في ظل تغافل أو غفلة فلسطينية غريبة. بالأمس القريب كانت قضية التوسع الاستيطاني وتغيير معالم القدس أهم ملامح هذه السياسة الإسرائيلية، أما اليوم فنجد أن إسرائيل فتحت العديد من الجبهات لتسريع وتيرة فرض الأمر الواقع مستغلة الظروف الإقليمية والدولية والتي تمثل البيئة المناسبة لتمرير مخططاتها، فلم تقف السياسة الإسرائيلية في تكريس الأمر الواقع عند حد التوسع الإستيطاني، بل امتد إلى ابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية وتغيير ملامح وطبيعة الأرض الفلسطينية واستغلال ثرواتها وتجسدت هذه السياسة في الجدار العازل والذي التهم مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية وقسم قرى بأكملها وحرم عائلات فلسطينية من مصدر رزقها ناهيك عن الضرر النفسي والمعنوي، ثم هدم البيوت وسحب أو حجب تراخيص البناء في محاولة لإفراغ منطقة القدس من ساكنيها العرب ومحاولة حملهم على المغادرة وخاصة مع استمرار التضييق على السكان المقدسيين في العديد من القضايا كالتعليم والتأمين الصحي وغيرها، إضافة إلى سحب وحرمان الهويات وكان آخرها ما حدث مع النواب المختطفين لدى السلطات الإسرائيلية من سحب هوياتهم وحرمان أبنائهم من الحصول عليها. أما الأمر الأخطر فهو استمرار الحفريات الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى والتي باتت تشكل خطراً حقيقياً لا يمكن التغاضي عنه أكثر من ذلك. وبالتزامن مع جميع تلك الإجراءات الإسرائيلية، تستمر إسرائيل في تضييق الخناق على الشعب الفلسطيني أكثر وأكثر لتدفع الكثير على المغادرة، ولتخلق فجوة تتسع بين من تبقى وبين العالم من خلال أوضاع اقتصادية واجتماعية وانسانية تندي الجبين.
قد يتبادر لذهن البعض أن الوقت قد يسعفنا قبل قيام إسرائيل بتغيير المزيد من الواقع على الأرض لأننا بدأنا بالفعل في مفاوضات الحل النهائي، ولكن واقع الأمر مغايراً تماماً، فلقد مرت بالفعل خمسة عشر سنة على اتفاقية أوسلو والتي كان المقرر لها العمل على وضع ترتيبات مؤقتة لمدة خمس سنوات قبل البدئ بمفاوضات الوضع النهائي، وبنظرة أوسع نجد أن المخططات الإسرائيلية بدأت بالفعل منذ زمن أبعد بكثير حتى من أوسلو، فاعتمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سلسلة من إجراءات تهدف لتغيير الوضع الديمغرافي في مناطق بعينها أهمها القدس وتكريس الصبغة اليهودية مع إفراغ المناطق من أي تاريخ عربي أو حاضر سكاني قد يكون عقبة في مفاوضات الحل النهائي. إسرائيل والتي تعلم جيداً التفوق العربي في النمو السكاني استطاعت وعبر هذه السنين من معادلة التوازن السكاني من خلال تسريع وتيرة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وتضييق الخناق على الفلسطينيين لتدفعهم إلى مغادرة أرضهم وبلدهم والبحث عن بلاد أخرى تكون فيها سبل الحياة أسهل وأيسر، مع تركيز قلب الواقع السكاني في مناطق عن غيرها، فبعد أن كان المفاوض الفلسطيني يتحدث عن القدس الشرقية، بدأنا نسمع عن أحياء في القدس الشرقية، وهو الأمر المرشح لمزيداً من السوء مع استمرار تكريس سياسة الأمر الواقع، أما فيما يخص المستوطنات، فقامت إسرائيل بتوسيع مستوطنات الضفة الغربية والتركيز عليها بعد أن انسحبت من قطاع غزة في خطوة أحادية تهدف لتركيز الأموال والجهود الاستيطانية في بؤر بعينها آخذة في الأتساع لتصبح بنداً أصيلاً وعنصراً هاماً في أي مفاوضات نهائية.
وفي ظل الإنقسام السياسي الفلسطيني والفصل القصري بين الضفة الغربية وقطاع غزة واستمرار حالة التخبط الداخلي، أضحت هذه القضايا ثانوية بعد أن طغت قضايا آنية مستحدثة على اهتمام الكثيرين، فقضايا الوحدة الوطنية والحصار، والمفاوضات والحواجز أضحت هي محل الأنظار، أما تلك القضايا الأساسية أصبحت ألعوبة في أيدي صناع القرار والمخططين الإسرائيليين. ثم يأتي البعض و يراهن من جديد على الآخرين بعد أن فقدوا إيمانهم بقدراتهم، فوجدنا اهتمام مبالغ بسباق الرئاسة الأمريكية، ولم يخف الكثير رغبته في فوز مرشح على آخر أملاً في إنصاف هذا المرشح للفلسطينيين خلافاً للإدارات الأمريكية السابقة، وهم المرشحين الذين تسابقوا على التقرب من إسرائيل وكان آخرهم المرشح أوباما والذي أطلق مدونة باللغة العبرية ليتقرب أكثر من اليهود، وصرح كذلك قبل عدة أيام أن إمكانية عودة إسرائيل لحدود ماقبل العام 1967 هو أمر غير مقبول في رسالة واضحة لمن اعتقد أن تغيرات جذرية قد تحدث في منظومة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية. إن نظام الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية يتصف بصفة الثبات والاستقرار وعدم إمكانية تعرضه لهزات فجائية أو تغيرات جذرية بسبب فوز مرشح من هذا الحزب أو ذالك، فنظام الحكم هناك مبني على الدور المؤسساتي وليس على دور الفرد أو شخص الرئيس، غير غافلين لصلاحيات الرئيس في قضايا بعينها والتي تخضع دوماً لرقابة شديدة من قبل الكونجرس، ويظهر أهمية دور جماعات المصالح في منظومة الحكم هذه في التأثير في الاقتراع ونتائج الانتخابات وبالتالي صنع القرار في مرحلة لاحقة، وهو ذات السبب الذي دفع جميع مرشحي الانتخابات الأمريكية في التقارب من إسرائيل إدراكاً منهم بمدى فاعلية وتأثير جماعات الضغط واللوبي اليهودي هناك. إنه لمن الواجب والضروري أن نكرس إيماناً بقدراتنا وأن نراهن أولاً على أنفسنا لا على غيرنا، أما دراسة التطورات الإقليمية والدولية فهو أمر رئيسي في رسم الخطط الاستراتيجية وتحديد ملامح الخريطة الدولية بعيداً عن أي أحلام أو تمنيات.
إن القضية الفلسطينية تمر بلحظات دقيقة للغاية تستحق أن نكون يداً واحدة لنواجه تحديات كبيرة، ومخاطر جسيمة حيكت ضدنا عبر سنين، وهو الأمر الذي يستدعي تضافر الجهود والخبرات الفلسطينية في كافة المجالات والتخصصات لصد مخططات خبيثة تهدف لتكريس واقع جديد. إنه لمن الضروري العمل على تفعيل و تأسيس لجان وطنية متخصصة ومتطورة تبعد عن الشكل التقليدي ومستعينة بالخبرات الفلسطينية في الداخل والخارج في المجال الإعلامي والقانوني والاقتصادي والسكاني وغيرها لتبحث في الإجراءات القانونية وتشرك جميع دول العالم والمنطقة والمؤسسات الحقوقية وغير الحكومية والشعبية وتسلط الضوء على قضايا الجدار والمستوطنات والقدس بما فيها الهدم وسحب الهويات والمضايقات، في محاولة لرأب صدع إن استمر فلن يجد بعده أي نفع.