مضاعفات هزيمة تموز 2006 ستظل تولد السلبيات في السنوات الخمس المقبلة على إسرائيل !

من الطبيعي أن تعمل إسرائيل منذ تأسيسها على إخفاء أي أثر لردود الفعل العسكرية العربية ولردود المقاومة عليها أثناء الحرب ولفترة طويلة بعد الحرب، وهي ترى في هذه المهمة عنصراً أساسياً من المقومات التي تجمعها لتحقيق قدرة الردع.. وهذا تماماً ما حدث أثناء حرب الاستنزاف العربية المصرية والسورية التي شنتها القوات المسلحة المصرية والسورية منذ عام 1968 حتى عام 1970 وخصوصاً على جبهة سيناء المحتلة في ذلك الوقت، فقد عملت إسرائيل على إخفاء خسائرها البشرية والمعنوية خلال تلك الحرب رغم أنها حاولت تصوير خط «بارليف» على جبهة سيناء بالحصن العسكري الذي لا يقهر ثم أجبرت على الاعتراف بأنها هزمت في تلك الحرب..

ففي مجلة «ميليتري ريفيو» الأميركية يعترف «عيزرا وايزمان» قائد سلاح الجو الإسرائيلي أثناء تلك الحرب قائلاً: «من الغباء الادعاء بأننا انتصرنا في حرب الاستنزاف، فالعرب رغم ما تكبدوا من خسائر تمكنوا في النهاية من إنجاز ما أرادوا تحقيقه ومهدوا الطريق إلى حرب تشرين عام 1973 أيضاً».
وتقول المجلة الأميركية المتخصصة بالشؤون العسكرية: إن إسرائيل اعتقدت في ذلك الوقت أن مصر بعد أن توصلت إلى اتفاق على وقف حرب الاستنزاف مع إسرائيل لن تشن حرباً أخرى إلا إذا حصلت على سلاح جو يتكافأ في قوته مع سلاح الجو الإسرائيلي وتبين بعد ثلاث سنوات من توقف حرب الاستنزاف أن العرب شنوا حرب تشرين ومن جبهتين. لكن الظروف ووسائل الإعلام المحدودة في انتشارها وتطورها أثناء حرب الاستنزاف كانت تساعد القيادة الإسرائيلية على إخفاء آثار ومضاعفات تلك الحرب رغم ما كانت تتكبده من خسائر في مجالات كثيرة، بينما لم تستطع حكومة أولمرت وقادة جيشها إخفاء جميع الخسائر في حرب تموز عام 2006 أو إخفاء مضاعفاتها في زمن ثورة الاتصالات والقنوات الفضائية الحديثة والمتطورة. هذا على الأقل ما اعترفت به صحيفة هآريتس أمس حين ذكرت أن تساقط الصواريخ من جنوب لبنان على إسرائيل لمدة ثلاثة وثلاثين يوماً والمضاعفات التي تولدت كان من المستحيل إخفاؤها.
فإسرائيل أصبحت شبه مكشوفة أمام جمهورها وأمام المقاومة في أي حرب مقبلة مثلما أصبحت مضاعفات تلك الحرب لا يمكن إخفاؤها بسرعة أو بعد وقت قصير. ومازال الإسرائيليون نفسهم يتذكرون كيف اجتمعت عائلات (12) جندياً وضابطاً إسرائيلياً أصابتهم صواريخ حزب الله حين كانوا يتجمعون قرب مستوطنة (كفار غيلعاد) على الحدود الشمالية لتأبينهم بعد أربعين يوماً، وكيف ندد الخطباء منهم بالمستوطنين في (كفار غيلعاد) الذين منعوهم أثناء حرب تموز من الاختباء قرب المستوطنة لحماية أنفسهم فتوقف الجنود في العراء وتساقطت فوقهم الصواريخ.
وكانت القناة (2) العبرية قد عرضت حفل التأبين الذي أقامته العائلات وبعض الخطابات التي شتم فيها أحد الخطباء المستوطنين هناك وألقى عليهم مسؤولية مقتل أولئك الجنود.. فإسرائيل ستظل تدفع ثمن عدوانها على قوات حزب الله واللبنانيين من خلال المضاعفات السلبية والانهيار المعنوي الذي أصاب جيشها وجمهورها حتى الآن وإلى أجل غير محدد، وانتقل جزء كبير من الردع الذي كانت تعمل على تحقيقه لإرهاب العرب إلى الجانب العربي والمقاومة هذه المرة إلى حد جعلها هي التي تخشى ردود المقاومة.
ومن مضاعفات الهزيمة التي تكبر ككرة الثلج يوماً تلو آخر كشفت صحيفة معاريف أمس أن والديّ أحد الجنود القتلى في حرب تموز تقدم بقضية للمحكمة العليا الإسرائيلية للمطالبة بإقالة القائد العسكري الذي أهمل في إنقاذ ابنه الذي أصيب داخل دبابة فقتل أثناء معركة بنت جبيل بسبب عدم إنقاذه.
وتقول صحيفة (معاريف) الإسرائيلية: إن المحكمة العليا تملك صلاحيات ضد قادة الجيش أيضاً وتلقت دعوة يُطالب فيها والد الجندي القتيل رئيس الأركان غابي أشكنازي بإقالة نائب قائد الفرقة (52) الذي عمل على الجبهة الشمالية في ذلك الوقت لأنه أهمل عملية إنقاذ ابنه وعدم إرسال الطبيب العسكري الذي لم يكن يبعد عن دبابته سوى (200) متر. واحتج والد الجندي لأن قيادة الجيش لم ترسل له نتيجة التحقيق الذي وعدت بإجرائه ومعاقبة المسؤولين المتسببين بهذا الإهمال وبعد أن خيب رئيس الأركان أمله بالإجابة سارع إلى تقديم شكوى قضائية تطالب رئيس الأركان بإقالة نائب قائد الفرقة (52).. وتعترف المصادر الإسرائيلية أن معظم عائلات الجنود القتلى والجرحى في حرب تموز تحولوا إلى دعاة سيئين بنظر قيادة الجيش الإسرائيلي لأنهم يتحدثون أمام الجمهور الإسرائيلي وفي وسائل الإعلام عن سلبيات الجيش وضعفه وعدم ثقتهم بقادته وقدرتهم على حماية الجنود أثناء الحرب.
وكانت إحدى الظواهر التي ولدتها هذه المضاعفات امتناع نسبة 30% من الشبان الإسرائيليين عن الالتحاق بالخدمة العسكرية وامتناع نسبة كبيرة من الملتحقين بها عن اختيار الخدمة الميدانية القتالية والإصرار على اختيار اختصاصات تجنبهم الخدمة على الجبهة. وبسبب حرب تموز وهزيمة الجيش الإسرائيلي فيها ازداد اهتمام القيادة الإسرائيلية بتحسين ظروف خدمة الجنود المتطوعين من المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً الذين لا يعتبرون يهوداً بل من الروس المسيحيين.
فقد أقرت الحكومة الإسرائيلية استقبال وإقامة قسيس مسيحي روسي في إسرائيل للقيام بواجبات دينية مسيحية للجنود الروس غير اليهود لأن الحاخامين لا يقرون لهم أن يدفنوا عند موتهم في مقابر اليهود أو مقابر الجيش الإسرائيلي. ولذلك افتتح الجيش مقبرة جديدة يدفن فيها الجنود من غير اليهود الذين ازداد عددهم في أعقاب استنكاف الشبان الإسرائيليين عن الخدمة والتهرب منها تحت ذرائع كثيرة منها وجودهم خارج إسرائيل بجنسية ومواطنة أخرى أميركية أو كندية أو أوروبية. ويعترف محللون سياسيون في إسرائيل بأن مضاعفات هزيمة تموز (2006) تولد آثاراً سلبية تتزايد شهراً تلو آخر ولن تنتهي خلال السنوات الخمس المقبلة وإسرائيل لا يمكن أن تتحمل مثل هذه السلبيات لأنها تتشعب وتتفاعل في زمن لم يعد يخدم إسرائيل.

تحسين الحلبي