مستقبل الحرية السياسية في العالم العربي

 أحمد شهاب
الأجدى من الحديث عن الحرية هو أن تمارس الحرية، وأن تعيش في دولة تتمايل الحريات مع أنفاس أهلها، فتحول خوفهم أمنا، وظلمهم عدلا، وهمسهم جهرا، ومشكلة العرب أنهم من رواد الحديث عن الحرية، يصفونها كامرأة حسناء لم تخطر على قلب بشر، ويتغنون بها كنشيد تعتق بحنين عشاق دجلة والفرات، لكنهم يرددونها بالموال العراقي المميز الذي يكتنفه حزن الرافدين من كل جانب، فلا تكاد تفرق بين أفراح العراقيين وأحزانهم، وهكذا هو حال المجتمعات العربية مع الحرية.

أن تعيش الحرية وتمارسها، يعني أن تحرث الأرض من أجل وطن آمن يزهو باستقراره السياسي والاجتماعي، وتختفي من لغته حروف القتل وحرفة الانتقام، يحكمه القانون الذي يفسح للجميع فرص التفكير بمستقبل زاهر، يحبو به الطفل الصغير من دون وجع الرصاص، وترسمه الفتاة اليافعة بحبر السلامة من قهر الفراق، ويقرأ فيه الرجل الناضج سورة التوحيد من أجل وطن واحد يحتضن الجميع دونما تمييز ضد فرقة أو طائفة.

لا اعرف إن كان القدر هو الذي يأخذ المجتمعات العربية من ألم إلى ألم، أو انه العدو الذي استجمع قواه على ضعفنا، وحوّل أمننا إلى خوف، لكن كل ما أعرفه أن الشعوب العربية استمرأت الظلم والهوان في الوقت الذي يضج ديوان أدبها بأشعار الحرية والكرامة، وتملأ مدوناتها التاريخية قصص العزة والأنفة، وتعلو فيها نصوص المنعة الذاتية «فالمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف»، و«أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، فيما ينافي الواقع تلك الحكايات والدعوات والنصوص، حتى لتبدو للناظر أقرب إلى العناوين منها إلى الأحلام، ولا أقول مجرد أوهام تجري على الأرض.

إرادة الإصلاح

بين الحديث عن الحرية، وممارسة الحرية، مسافة زمنية طويلة، عنوانها إرادة الإصلاح، التي إن توافرت لأمة من الأمم، نهضت من كبوتها، وقارعت الصعاب في سبيل تحقيق الحضور والتفوق، وإن غابت تلك الإرادة، انتقلت الأمة إلى واقعها القصصي التاريخي الذي يتغنى بالنصوص وحكايات الأجداد، بينما واقعها يحوم في دوامة التأخر الثقافي والسياسي والديني. وهذا التنازع بين الفكرة المثالية والواقع المتخلف، تحول من حدث طارئ إلى ثابت داخل المجتمعات العربية، حتى تحولت كل المشاريع النهضوية، أو التي استهدفت النهضة في العالم العربي إلى مشاريع هامشية أو معطلة.

إن النضال في سبيل بناء مجتمع متأسس على فكر سياسي يقوم على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتشتغل مؤسساته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على تشكيل قفزة نوعية، سواء على صعيد الفكر السياسي النقدي، وبما يحقق الحرية، والعدالة، والمشاركة السياسية، وهي الأهداف التي تسعى إليها كل المجتمعات للخروج من ربقة التخلف التي تعيشها منذ أمد طويل، يستلزم الجرأة على فك التناقض القائم بين العالم المعنوي والعالم الحسي كما يقول أفلاطون، أو بين عالم الأفكار وعالم الأشياء على حد تعبير المرحوم مالك بن نبي.

مطلوب من الفكر السياسي العربي المعاصر اليوم أن ينتفض على ذاته انتفاضة حقيقية تعيد للسياسة العربية رشدها المفقود، وأحسب أن المعادلة لا تعود إلى رشدها، إلا في حالة انقياد السياسة إلى الفكر، لا كما هو حاصل اليوم، فالسياسة بما هي طبيعتها ومفهومها، تعنى بتحقيق المصلحة الجزئية للحزب، أو الطائفة، بغض النظر عن المصلحة الكلية التي تهتم بالوطن والمجتمع ككل، في حين ان الفكر يعمل على استنباط المصلحة العمومية من ضمن معيار الموضوعية، ولعل هيمنة السياسي على ما عداه في العالم العربي، هو ما وضع الفكر والثقافة في زنزانة المصالح الخاصة، وهو ما مهد الطريق أمام الممارسة السياسية لتدجين المفاهيم والأفكار.

ولهذا السبب اقترب واقع الدول والمجتمعات الغربية من بنيتها المعرفية والفكرية، بينما فقد الواقع العربي انسجامه مع تلك البنية، ولعل واقع ومفهوم الديمقراطية والحرية في البيئتين الغربية والعربية أبرز من أي حكمة أو مثال، فبينما استثمرت الدولة الغربية الديمقراطية كمدخل ومعبر لتحقيق الحداثة السياسية وتتويجا لها، واستطاعت من خلالها أن تحول الصراعات السياسية والاجتماعية الدائرة إلى مشروع إثراء أهلي ووطني، فإن الدولة العربية أخفقت، ولا تزال، في إنجاز مجتمعها السياسي الحديث، وظلت في حالة عداء مزمن مع تلك المفاهيم الحديثة.

بالنسبة إلى الحكومات العربية، فإن علاقتها بالديمقراطية اقتصرت على استثمارها في تخفيف حدة المطالبات الشعبية، فكأنما أصبحت الديمقراطية سيفا لقطع الطريق أمام ضغوطات الداخل والخارج، وأصبح الحديث عن ديمقراطية ضد الديمقراطية، وحرية تقتل الحرية، واقعا عربيا لا يمكن التستر عليه. إن مفهوم الديمقراطية في عرف الأنظمة السياسية العربية لا علاقة له من قريب أو بعيد بالواقع القائم، وعادة ما تحكم المصالح السياسية، لا الأفكار، درجة الانضباط بالمفهوم الديمقراطي، ولهذا السبب تبدو الحالة الديمقراطية في العالم العربي مهددة بصورة مستمرة.

أما القوى والجماعات السياسية العربية، فقد تعاملت مع الديمقراطية كسلاح ضد الحكومة، لكنها لم تعمد إلى ترسيخه كمفهوم غير قابل للتجزئة، ولا أدل على هذا الادعاء من غياب الديمقراطية في ممارساتها الداخلية، وهي في الغالب تطالب الدولة بالالتزام بالديمقراطية، وفسح المجال أمام الحريات السياسية، وتندد بالحكومة إذا تجاوزت خطوط الحريات الأساسية، لكنها تمارس عكس ذلك، ويشتكي المنضوون تحت راية الأحزاب والتكتلات السياسية العربية من استبداد شيوخ الحزب أو الجماعة، ومن رفض النقد الداخلي.

في المحصلة، فإن مفاهيم الحريات والديمقراطية في مجتمعاتنا العربية، لم تتحول إلى ثقافة راسخة تظهر في السلوك السياسي والاجتماعي، وإنما ظلت شعارا وعنوانا فضفاضا يستخدم عند الحاجة كمكمل سياسي، وهو الأمر الذي أغلق فرص تطوير الديمقراطية، وحوّلها إلى مفهوم غائم، وأعتقد أن الوقت قد حان، ومنذ زمن، لتوفير بيئة ملائمة قادرة على استيعاب المفاهيم الحديثة وتطويرها، والانتقال من الحديث عن الحريات السياسية إلى ممارستها، وترجمة قيمها على الأرض.