الزفرات !




د.كمال متولي
لا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي قرأت فيها كتاب "العبرات" للأديب المصري الراحل مصطفي لطفي المنفلوطيمصري الأب تركي الأم. لقد عاودت قراءة الكتاب في طفولتي وصباي منبهرا ببلاغة اللغة وحسن الصياغة مع سلاسة وبساطة علّي أستفيد منها في تهذيب لغتي عند كتابة موضوعات "الإنشاء" في اللغة العربية فالصفات المكتسبة تقيدها دائما الصفات الموروثة, فلما أيفنت أنه لا درة لي عي المجاراة آثرت السلامة وكانت معاودة القراءة للاستفادة من طريقة التفكير في معالجة قضايا المجتمع.
استدعت الذاكرة هذه الأيام هذا العمل الرائع بعنوانه عندما خنقتني أحداث متتابعة تزفر الي صدري , والزفير في اللغة- ادخال النفس- ورأيت أن أنفس عن نفسي بطرح هذه الزفرات فكان العنوان.
ما من حكومة يوكل اليها أمر شعب إلا وكان البعد الاجتماعي أسبق أولوياتها لأسباب عدة تبدأ من أمنها وأمن المجتمع فالجوع كافر وقسوته مدمرة وأشرس ثورات التاريخ هي ثورات الجياع في فرنسا وروسيا القيصرية وهي ثورات غوغائية تدمر كل ما يقع في يدها وأحد رموز الجوع افتقاد رغيف الخبز افتقادا يصل الي حد القتل من أجل أسبقية الحصول علي الخبز وليس الخبز فقط! وكأن ما يدور يدور علي أرض لا علاقة للحكومة بها وتتناقل وكالات الأنباء والفضائيات بالصوت والصورة الأحداث المفجعة ولا تحرك ساكنا أو تتنحي لعجزها عن المواجهة والحل إلي أن يأتيها قرار فوقي ومع اعماله لم تنته الأزمة!
حكومة عاجزة عن تدبير علاوة اجتماعية لتعين الناس علي مشاق الحياة ولم تعلن عجزها مفسحة لغيرها مجال الحل وعندما تكلف بمراعاة الناس مع تدبير الموارد يعلن أحد أعضاؤها أنه سيبيع أصول للدولة لإقلال النفقات وتقليص عجز الموازنة ! الحل بيع وليس تنمية الموارد وليس تقليصا لدور رأس المال في السيطرة وليس تكليفا لرأس المال الخاص بالقيام بدوره الذي يمارسه في كافة دول العالم المتحضر بمراعاة البعد الاجتماعي والمساهمة التطوعية فيه!
حكومة عاجزة عن ضبط الأسعار وحماية المجتمع من غول الاحتكار وأدواته بل وتجد ما تبرر به جبروته بنسبة ذلك الي ارتفاع اسعار الخامات بينما هي لو فتحت باب الاستيراد حتي من قبل الاعفاء من رسوم الجمارك وضريبة المبيعات لتوفرت السلعة بنصف ثمنها في السوق؛ بل ولو انها التزمت بوعودها لمنتجي القمح ولم تفضل عليه قمح الخارج لضاقت فجوة حاجة السوق الي قمح الخارج وفي كلتا الحالتين وأمثالهما تكون قائمة بدورها الصحيح في الاهتمام بالبعد الاجتماعي بدلا من استبدال رأس المال المستغل بالمجتمع الذي يأتي بأي حكومة من خلال انتخابات حرة مباشرة الي سدة الحكم!
 
تتباع حالات الاعتصام والاضراب ما بين عمال وموظفين علاقتهم بالحكومة علاقة تنظيمية منادين بمطالبهم التي تتمنع عنها الحكومة ويدخل بعض أعضائها في دور تحد لها ثم تجاب بتعليمات الي الحكومة, والسيناريو بحالته مدعاة للأسي علي ادارة مصالح الناس فإن كانت الحكومة لا تعلم هذه المشاكل فهي مصيبة, وإن كانت تعلمها وهي عاجزة عن حلها فالمصيبة أكبر, أما اذا ما تعززت الحكومة عن اجابة المطالب ثم فرض ليها الاستجابة كواقعة الثلاثين يوما المنحة التي أعلنها رئيس مجلس الوزراء لعمال شركة المحلة وخمسة عشر يوما لغيرها من شركات الغزل فالمصيبة أعظم لأنها ترسم الطريق لكل صاحب حق للمطالبة به .... وهذا عين عجز الحكومة!
تزداد قسوة أثار العجز عندما تفقد الحكومة مصداقية بياناتها التي تعلنها وتروج لها أقلام صحف بعينها بشكل متضارب ومخل عندما يعلن أن الدعوة للاضراب العام يوم 6 ابريل فشل ولم يستجب له أحد, ثم يعلن أن هناك مئات من المعتقلين وتأت مشاهدهم بالصوت والصورة علي فضائيات العالم ثم ينتقل رئيس الوزراء ليعلن المنحة التي تقررت! ... كيف يكون هذا؟ لقد ككانت سوءة اعلام 1967 ما كانت تردده أجهزة الاعلام من بيانات رسمية عن عدد الطائرات المعادية التي اسقطت ثم تفاجئ الناس بعد كل هذه التعبئة الوطنية أنه لم تكن هناك معركة وطائرات مصر ضربت في مرابضها واستشهد من أبنائها إثني عشر ألفا وترك السلاح والعتاد علي أرض سيناء التي أحتلها العدو بالكامل فأعلن رئيس الدولة تنحيه عساه أن يمتص غضبة الشعب.
تترك كافة المشاكل بمضاعفاتها لتحل علي أعلي مستوي الأمر الذي يثير التساؤل عن دور كافة أعضاء الحكومة وبماذا يتقاضون رواتبهم وملحقاتها ؟ ولماذا لهم مخصصات؟ ولماذا تتحمل الموازنة عبئ حمايتهم والانتقال بتشريفات معوقة لمصالح الناس ضارة بالانتاج بشقيه السلعي والخدمي؟ ... يتبعها تساؤل آخر إن كانت أمور أمة بأكملها لا تحل الا علي يد مستوي معين فالمتعين علي كل أبناء هذه الأمة أن ينقطعوا للصلاة داعين الخالق أن يبقيه أبد الدهر ويعافيه من أي وعكة تعطل الحصول علي حقوقهم وقد يسيئ بعض ضعاف النفوس استغلال وقت الوعكة المعطلة فيما لا تحمد عقباه بعمل طائش عشوائي!
وسط كل هذا ترفع قيم الخدمات الإحتكارية وتظهر آثار النعمة علي مباني أجهزة هذه الخدمات وسيارات انتقال إدارييها وتزداد ايرادات الدولة علي حساب مواطنيها الذي يتقاضي أغلبهم أجورا لا تكاد تفي بضرورات الحياة وما حيلة له في الاستغناء عن مياه وكهرباء وغاز الحكومة!!!
صورة غير مريحة لزفرات تضيق بها الصدور ... لكنها علي أي حال نذير ... فهل يتدبر الناس مثل من سبقهم ليرحموا الناس وأنفسهم معهم؟