ملحمة المقاومة والحرية !

 بقلم الدكتور : فايز عز الدين*
الجلاء في 17/4/1946 ثمرة كفاح الشعب العربي السوري على مدى ربع قرن من الزمان, فمنذ أن دخل جيش الجنرال غورو, وقابله جيش سورية النواة وغير المكافئ في العدد والعدة بقيادة البطل يوسف العظمة في ميسلون صبيحة 24 تموز

,1920 وسقط حينها قائد الجيش وزير الحربية شهيداً حتى لايسجل التاريخ أن الفرنسيين قد دخلوا بلادنا دون مقاومة, بدأت حقبة الانتداب الفرنسي على سورية, وذلك الانتداب الذي فرضته عصبة الأمم المتحدة بما خالفت فيه كل شرعة دولية معمول بها آنئذٍ.‏

ومنذ ذلك اليوم خسر السوريون قيام دولتهم التي حلموا بها, وحرروا بلادهم من العثمانيين لأجلها, ورزحوا من جديد تحت وطأة الظلم الاستعماري ولو بذريعة الانتداب الذي لم تنطلِ لعبته على الوطنيين السوريين الأحرار, ولاسيما حين طفقت فرنسا الدولة المنتدبة على سورية بتقسيمها إلى دويلات( دويلة لبنان, وجبل الدروز, ودولة اللاذقية ,و حلب, ودمشق) وعملت بكامل طاقاتها التقسيمية على تفتيت عرى سورية قبلياً, ودينياً, وطائفياً, وعرقياً, لكن الذي سجل في التاريخ الوطني لسورية‏

ومازال مجال اعتزاز لشعبنا الأبي هو أنه على الرغم من تفتيت الوحدة الجغرافية لبلدنا فشل المستعمرون في تفتيت وحدة المشاعر الوطنية, ووحدة الرابطة القومية التاريخية, ووحدة الهدف السياسي, والاجتماعي, والتحرري, وبقي نضال شعبنا ا لوطني التحرري الموحد مطلباً للجميع, فانتصرت - من جديد- الوحدة الوطنية عند السوريين, وانتصر عقدهم الاجتماعي الموغل في القدم, والمميز لهم في حضارتهم التاريخية, وثقافتهم العروبية,وهويتهم الإنسانية.‏

وبناء عليه حين بدأت الطلقة الأولى في الساحل السوري الذي كان قد احتل منذ العام 1919 على يدي المجاهد صالح العلي تجاوبت معها طلقات الثوار السوريين في كافة مناطق سورية, ومدنها, فهبت نيران الثورة السورية الكبرى تصلي بنارها جنود الاحتلال, وتسدد الضربة تلو الضربة للدولة التي كانت تحسب من عداد الدول العظمى في ذلك الزمان, وأثبت السوريون أن إرادة الشعب المقاوم لايمكن أن تكسرها جيوش الاحتلال مهما بلغت قوة عدتها, وعتادها, فالحاسم في كل معركة تحرر وطني هو الشعب المقاوم المؤمن بتحرير وطنه, وليس السلاح الذي يملكه المستعمر الغاصب.‏

ومن ذاكرة المؤرخ حنا أبي راشد أن أحد المكلفين من قبل الفرنسيين التفاوض مع الثوار في جبل العرب على أثر معركة المزرعة في 2-3 آب 1925 قد مر بأرض المعركة فوصف ماشاهده: جثث القتلى مطروحة على جانبي الطريق المفضي من المزرعة إلى مدينة السويداء عدّ منها - كما قال- أكثر من ألفي جثة للجيش الفرنسي, ثم عد الخيول, والآلات المدمرة بماجعله يتأسف على شباب فرنسا الذين زجت بهم دولتهم المستعمرة ليموتوا بين هذه المسالك الوعرة, وتابع المفوض بعقد الصلح مع ثوار الجبل بقيادة سلطان باشا الأطرش طريقه نحوقرية الثعلة ليلتقي في بيت آل عز الدين بالقائد سلطان ومعه في البيت ذاته محمد باشا عز الدين, وأولاد عمه نجم, وهلال عز الدين, وعدد من آل نصار حيث شرع يفاوضهم في أمر الصلح مع الدولة المنتدبة, وخاصة موضوع تسليم الأسرى الفرنسيين الذين كانوا في بيت آل عز الدين في الثعلة ورغم قوة الدولة المستعمرة فرنسا أصر ثوار الجبل على فرض شروطهم, وسلموها- في الثعلة- للمفوض بعقد الصلح.‏

ومن الجدير بالذكر - في ذلك التاريخ- أن مطالب الثوار, وشروطهم انصبت على إعادة توحيد الوطن السوري, وانسحاب الجيوش الفرنسية منه ما أغضب المندوب السامي الإفرنسي الجنرال هنري دي جوفنيل فوجه حملة جديدة إلى السويداء بهدف إخضاع الثوار قادها الجنرال أندريا في 22 نيسان عام .1926‏

والعبرة مما سقناه من ذاكرة المؤرخ حنا أبي راشد تشير لنا أن شعبنا العربي السوري عاش موحداً على هذه الأرض وتواصلت رموز كفاحه التاريخي, وشدت أزر بعضها, وقاتلت معاً حتى تم تحرير سورية من الفرنسيين, وصارت مهمتها منذ العام 1946 عام الاستقلال العمل بدفعٍ واضحٍ من الحركة السياسية والوطنية فيها - على إنقاذ فلسطين من إرهاصات احتلالها من قبل العصابات الصهيونية, وما زالت سورية تنطلق من اعتبار أن فلسطين هي قضية العرب المركزية,وتتعلق بالمصالح القومية للعرب أكثر مما تراعي مصالحها القطرية.‏

وإذا كنا اليوم نعيش الذكرى الثانية والستين للجلاء فإن توهج الذكرى في الوجدان الوطني والقومي لشعبنا العربي في سورية يعطينا أن الحاضر المعاش في ظل تحدي الاحتلال الصهيوني لأرضنا العربية في الجولان, وجنوب لبنان, وفلسطين, ومن ثم استمرار احتلال العراق الشقيق من قبل التحالف الأمروبريطاني يدعونا إلى أن نجدد عظمة الوقفة التاريخية لشعبنا الموحد القوي, ونظهر - في ظل نظامنا السياسي المقاوم, والمتمسك بالثوابت, والحقوق غير القابلة للتصرف - صفاً واحداً, و كتلة وطنية عصية على الأخذ من الخارج مثلما هي عصية على الأخذ من الداخل.‏

ومن الواضح أن حركة التحولات الدولية المساندة لعدونا الصهيوني والمحالفة لأمريكا في احتلال العراق لا يمكن أن تتوجه نحو الاعتراف بحقوقنا المغتصبة, وبقضايانا العادلة قبل أن نظهر في سورية, وفي بقية أرجاء العروبة يداً واحدة, وخندقاً واحداً, وقوة واحدة موحدة, فقيم الاستقلال وطدت اللحمة الوطنية, وعززت الموقف الواحد وعمقت التلاقي على الفكرة الجامعة, والعقيدة المجمعة.‏

واليوم ولاسيما بعد النتائج الكبيرة لمؤتمر القمة العشرين للقادة العرب, الذي انعقد بدمشق في 29و30 آذار برئاسة السيد الرئيس بشار الأسد- نشعر بإحساس كبير بالمسؤولية بأن العرب الذين وضعتهم السياسات الجيو استراتيجية الأمروصهيونية على حافة التداعي, والتنافر وعدم الاقتراب من التعاضد والتآزر والتضامن قد لم شملهم مؤتمر قمتهم, واتخذوا قرارات مصيرية حاسمة وما عليهم سوى أن يقرؤوا جيداً دروس استقلال أقطارهم ليتوصلوا إلى حقيقة أن وحدة النضال العربي من مشرق العرب إلى مغربهم لم تجعل أي قطر يقاوم استعماره بمفرده بل كانت ثورة كل قطر ضد استعماره كأنما هي ثورة كل العرب فيه, من ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941 إلى ثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب.‏

وعليه فالدعوة إلى الانتباه, والصحوة التي مافتئت سورية تطلقها حتى لانغفل عن المواجهات الصحيحة, وحتى لا نترك فراغات بيننا يتسلل إليها الأجنبي, ويتدخل بشؤوننا, ويمنع تلاقينا من جديد باعتبار أن وحدة العرب قد تقرر ألا يسمح لها منذ انعقاد مؤتمر كامبل بزمان في القرن الماضي عام ,1905 وإذا ما أراد أهل هذه الأرض التاريخيين أن يعودوا إلى وحدتهم كما كانوا عليه في تاريخهم فما عليهم سوى أن يفشلوا- بتقاربهم, وتجانسهم, وإحساسهم بوجودهم الواحد, ومصيرهم الواحد, وعدوهم الواحد- كلما خططت له الصهيونية العالمية, وما دعمتها فيه, ومازالت آلة الحرب التكنولوجية الغربية الامبريالية ممثلة بأميركا اليوم كقطب وحيد يسعى إلى الهيمنة على أرض العرب, وخيراتهم, وأشكال اختيار تنظيم حياتهم السياسية والاجتماعية, وعليه فالجلاء, وقيمه سيبقى حافزنا الأكبر نحو الجهاد الأكبر.‏