كيف تصبح سورية معتدلة... لبنانياً!!

انهمرت طوال الفترة الماضية العديد من التصريحات والتمنيات والطلبات والأوامر والتهديدات الصادرة من عدّة عواصم غربية وعربية أيضاً، وجميعها تدعو سورية إلى تغيير سياساتها وسلوكها الحالي في لبنان وتطلب منها الالتزام بتنفيذ قائمة طويلة من الشروط حتى تحظى برضا أميركا وعرب أميركا وتصبح وقتها ممن بشرهم جورج بوش الابن وحواريوه بدخول الجنة الأميركية!!

ولتحقيق ذلك والحصول على شارة الاعتدال الذهبية يتعيّن على سورية أن تسهّل أوّلاً انتخاب رئيس في لبنان وهذا مطلب يتطلب من سورية أن تتدخل بالقوّة فتجبر بعض حلفائها والبعض ممن هو ليس حليفاً لها بالذهاب لانتخاب الرئيس فوراً وعدم مناقشة أي تفاصيل محقة تتعلق بطبيعة التمثيل في الحكومة القادمة أو قانون الانتخاب وفق ما نصت عليه المبادرة العربية، ويتعين عليها أن «تقنعهم» أن المبادرة العربية كانت للاستهلاك الإعلامي وأن آخر تفسير لها أتى من واشنطن تضمّن بعد ترجمته، أنه يتعين الآن انتخاب الرئيس فوراً وبعدها ستقرر أميركا الخطوة القادمة.. وعلى سورية أن تقمع المعارضين إن اعتقدوا أن حصولهم على 45% في الانتخابات النيابية الأخيرة يعني حصولهم على النسبة ذاتها في أي تشكيلة حكومية قادمة لأن الـ45% بعد تصريفها أميركياً لن تساوي أكثر من 29% وهذا أقصى ما يمكن الحصول عليه وهنا مسؤولية سورية بإقناعهم بهذا اللامنطق وإلزامهم به أيضاً.. علماً أن سورية إن فعلت ذلك فهذا لا ُيعد «تدخلاً في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة» لأنه يحق لأميركا ووكلائها ما لا يحق لغيرهم!!
ويتعين على سورية أيضاً أن تستبق نتائج التحقيق الدولي حول اغتيال الحريري وتتجاهل التقارير الصادرة عنه والتي تؤكد التعاون السوري، وتبادر بتقديم رواية محكمة «على طريقة الصدّيق» تؤكد فيها مسؤوليتها عن جريمة الاغتيال وتبادر بتقديم قائمة طويلة بالمتورطين بهذه الجريمة وهي قائمة ستصل لاحقاً من واشنطن وستتضمن أسماء كل المعرقلين للمشروع الأميركي في العالم من جنسيات متعددة ولذلك لن تكون قاصرة على أسماء شخصيات سورية ولبنانية فحسب وإنما ستتضمن أيضاً شخصيات فلسطينية وربما كوبية وفنزويلية ومن كوريا الشمالية أيضاً!! ويتعين على سورية هنا إقناع كل من يرد اسمه في هذه القائمة بأنه اغتال الحريري فعلاً والالتزام بتسليمه إن كان موجوداً على إقليمها أو خارجه!! علماً أنه يمكن هنا الاستعانة بشخصيات لبنانية من فريق 14 شباط خبيرة بفبركة الأدلة وخلق الشهود وإخفائهم إن اقتضى الأمر.
ومطلوب من سورية الإقرار بنهائية الكيان اللبناني «وفق أدبيات فريق السلطة» وهذا يعني أنه يتعين على سورية أن تتناسى أنها من قدم أول قرار صادر عن جامعة الدول العربية ينص على الاعتراف باستقلال لبنان وسيادته وأنه في الاجتماع التمهيدي الثالث- تمهيداً لإنشاء جامعة الدول العربية- بقصر أنطونيادس بالإسكندرية في 30 تشرين الأول 1943 قدّم رئيس وزراء سورية آنذاك سعد اللـه الجابري مذكرة رسمية اعتبر فيها أن (المشكلة السورية تتعلق بأربعة أقطار عربية هي سورية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن...) وعلى إثر ذلك قدّم الوفد السوري مذكرة رسمية اعترف فيها باستقلال لبنان بحدوده الحالية، وتم تأكيد هذا الأمر وجعله مبدأً أساسياً في بروتوكول الإسكندرية تحت عنوان (قرار خاص بلبنان) وبموافقة الدول الخمس المشاركة ومن ضمنها سورية، ويتعين عليها أن تتجاهل أيضاً أنها قدّمت 14 ألف شهيد من خيرة جنودها وشبابها فقدتهم على الأرض اللبنانية خلال دفاعها عن وجود لبنان وبقائه في مواجهة القوات الإسرائيلية والميليشيات اللبنانية العميلة لها.. فهذا كلّه لا يعني الاعتراف بالسيادة ونهائية الكيان وإنما لا بد من التفكير بحلول ومبادرات أكثر ابتكاراً وإقناعاً كتعديل النشيد الوطني السوري وإضافة فقرة تتغنى بنهائية الكيان اللبناني كأن ُيصبح مثلاً «حماة الديار عليكم سلام... أقر لبنانياً بنهائية الكيان»!! أو صياغة قسم يتضمن عبارة «أقسم بالله العظيم أنني اعترف بنهائية الكيان اللبناني» وإلزام كل المواطنين السوريين بترديده ليل نهار قبل النوم وبعد الاستيقاظ وقبل وبعد وأثناء وجبات الطعام اليومية!!!
كما يتعين على سورية أن تبدأ فوراً بترسيم الحدود في منطقة مزارع شبعا اللبنانية الُمحتلة إسرائيلياً وهنا ينبغي تجاهل أن رئيس الوزراء السوري كان قد أرسل منذ تشرين الثاني من العام 2005 رسالةً إلى نظيره اللبناني من خلال الأمين العام للمجلس السوري – اللبناني الأعلى يبلغه فيها أن سورية وافقت على إعادة تفعيل لجنة الحدود المشتركة والبدء فوراً بترسيم الحدود ما عدا شبعا لكونها تحت الاحتلال.. فهذا كلّه لا قيمة له لأن المطلوب أن توافق سورية على ترسيم حدودها تحت الاحتلال فترسل مهندسيها وخبراءها ليعملوا تحت العلم الإسرائيلي وبإذن إسرائيل وتحت رقابتها بعيداً عن «هلوسات» السيادة والكرامة الوطنية!! كما ينبغي أيضاً إرسال الوثائق التي تؤكد لبنانية هذه المزارع ولا ينبغي التذرع هنا بأن سورية لا تملك وثائق كهذه أصلاً.. فهذه حجة ضعيفة لأنه يتعين على سورية بكل بساطة أن تزوّر الوثائق المطلوبة وغير الموجودة وتعيد كتابة التاريخ كما يريدون وتقبل باللامنطق القانوني الذي يجعلك ُملزماً بإثبات أنك لا تملك هذا الشيء وليس العكس!!
ولا ينبغي تجاهل قضية المفقودين اللبنانيين وهنا المطلوب أن تثبت الحكومة السورية أن كل من ُفقد في الحرب الأهلية اللبنانية وطوال الثلاثين سنة الماضية غير موجود أو معتقل في سورية وهذا يتطلب ببساطة أن نتحول جميعاً كسوريين لعناصر بحث وتقص لإنهاء هذا الملف مع إمكانية أن ننبش كل الأراضي اللبنانية لكشف المقابر الجماعية التي كان الأشقاء يودعون فيها جثث أشقائهم خلال حربهم الطويلة.. علماً أن أي لبناني كان قد ارتكب جرماً بحق سورية أو على إقليمها وسواء كان تجسساً أو قتلاً أو نصباً أو دعارة وتجارة مخدرات.. وجرى توقيفه أصولاً، ينبغي الإفراج عنه فوراً واعتباره بطلاً وطنياً ومناضلاً سياسياً وتقديم الاعتذار له لأنه لا يجوز توقيف أو محاكمة أي لبناني يرتكب جريمة ضد سورية أو على إقليمها أيّاً كان نوعها أو طبيعتها وليس لسورية مثل هذا الحق عملاً بمبدأ الاختصاصين الشخصي والإقليمي اللذين تتضمنهما كل تشريعات العالم.. وأمّا بالنسبة للأشخاص غير الموجودين لدينا والذين يصر الأشقاء على أنهم موجودون في السجون السورية فيتعين على الحكومة السورية أن تنهي هذا الملف بإحدى طريقتين فإما أن تتولى هي البحث عن هؤلاء الأشخاص فوق الأرض أو تحتها وفي كل بقاع العالم لإثبات أنهم غير موجودين في سورية، أو تختار الحل الأسهل والأنسب فتستفيد من تقنية الاستنساخ وتبادر بتقديم نسخة معدّلة وراثياً لكل من ُفقد في لبنان وبذلك تضمن تحقيق السعادة للجميع.

د. إبراهيم درّاجي