أصبحنا يهود القرن


قال جون كنيدي، في خطاب تنصيبه رئيساً في 20/1/1961، مخاطباً الأميركيين: لا تسألوا ماذا يستطيع بلدكم أن يفعل لكم، اسألوا ماذا تستطيعون أن تفعلوا لبلدكم.

لو ترجمت كلمات الرئيس كنيدي الى العربية لكان معناها ما سمعت قبل انتخابه ومنذ انتخابه وحتى اليوم، وهو أن نضحي في سبيل الوطن.

التضحية في سبيل الوطن مسلّمة عربية، وربما عالمية. ولكن هل هي صحيحة؟

أجدها صحيحة في بلدان مثل أميركا وغرب أوروبا، واستراليا ونيوزيلندا وغيرها حيث يخدم المواطن بلده شاباً وكهلاً، ويرد البلد عليه بأمن وأمان وضمانات اجتماعية وصحية تحفظ كرامته شيخاً.

مثل هذه العلاقة المتكافئة المتوازنة المتبادلة غير موجود في بلادنا.

منذ وعيت الدنيا وأنا أسمع مَن يطلب مني أن أضحي من أجل الوطن. في البيت. في المدرسة. في الشارع. في حياتي العامة والخاصة. ضحِّ من أجل بلدكَ.

أعلن عبر هذه السطور:

لم أعد أريد أن أضحي من أجل الوطن. ضحّيت (كما ضحّى كل مواطن) بأضعاف نصيبي، ولكن ماذا أعطاني الوطن في المقابل؟

لن أقول لا شيء، لأنه أعطاني دماء ودموعاً.

وفي حين أنني أصغر من أن أعي الأربعينات وخسارة فلسطين، فإنني تنفست القضية وأكلتها وشربتها ككل مراهق مثلي في الخمسينات.

في لبنان بعد عقد من «الحريق والغريق والتشمطط على الطريق» انتهينا بحرب أهلية في صيف 1958 كانت تدريباً على 15 سنة من حرب أهلية مدمرة تالية، والحرب الأهلية أسوأ أنواع الحروب.

وبين الحربين تعلّمت وعملت وعشت في أكثر البلدان العربية حرية، مع انها حرية بالقطّارة مقارنة بالبلدان الحرة فعلاً. وبما انني صحافي فقد حُوِّلت الى محاكم عسكرية ومدنية مرات عدة، وبرئت وحكم علي من دون تنفيذ، وبقيت حيّاً.

خسرت في الوطن أصدقاء وأحباء قضوا في العنف المجنون من دون ذنب سوى ذنب المواطنة. وتبعتني الخسائر الى لندن منذ 14/2/2005، فقد راح في الاغتيالات أبطال لا أعرفهم وراح أيضاً أصدقاء وأحباء كما في الحرب. واستطاع الوطن أن ينكبني بـ «ريموت كونترول».

ثم أسمع: ضحِّ من أجل الوطن. أريد أن يضحي هذا الوطن من أجلي مرة. لم يعطِني غير حياة مشوبة بالخوف ثم غربة قسرية. وعندما قررت أن أعود عاد العنف أو التهديد به كأنني وحدي المكتوب عليه عدم العودة.

يا جماعة، إذا كانت غربتي تمنع عودة العنف، فسأبقى في الخارج مع ذلك اليهودي التائه الذي سمعنا عنه. هو في الأسطورة كفر بالمسيح فحكم عليه بالتيه حتى عودة المخلص، ونحن حكِم علينا من دون كفر.

أصبحنا يهود القرن نعاني ما عانوا في القرن الماضي وكل قرن سبقه. وثمة أعداء معروفون، ولكن قبلهم وبعدهم هناك ظلم ذوي القربى وهو أشد مضاضة.

ثم أطالب بأن أضحي من أجل الوطن. لا أريد أن أضحي وأنا من طبقة مرتاحة وعندي قدرة العيش «5 نجوم»، فكيف شعور من يلقي بنفسه في البحر هرباً من الوطن، وينتهي يتيماً على مأدبة اللئام في أوروبا أو طعاماً للسمك.

كم هو حجم معاناة مواطن شاب يغامر بحياته فراراً من جحيم الوطن؟ أكتب بحبر على ورق وأضيق بنفسي وبالوطن، ثم أتذكر شاباً أسوأ حظاً مني ألف مرة يكتب بدمه، ولا ذنب له سوى أنه ولد في هذا الوطن الذي قد يكون لبنان، أو العراق، أو السودان، أو مصر، أو المغرب، أو أي بلد عربي.

أكثر الذين يدّعون انهم ضحّوا ويضحّون من أجل الوطن هم الذين عصروه ليمونة ناشفة ورموه في وجهنا، ثم طلبوا منا أن نضحي لهم، لا معهم.

أنا ضحيت بما يكفي ويزيد، وأريد ان يضحي الوطن لي مرة.

وأخيراً،

عبارة جون كنيدي التي بدأت بها تبعتها عبارة تقول: إخواني مواطني العالم: لا تسألوا ماذا تستطيع أميركا أن تفعل لكم، بل اسألوا ماذا نستطيع أن نفعل معاً لحرية الإنسان.

كان زمان. أميركا دوايت ايزنهاور وجون كنيدي. أميركا مشروع مارشال والنقطة الرابعة. أميركا حريات الشعوب في وجه الاستعمار الأوروبي.

اليوم هناك أميركا بوش/ تشيني، أو الخطر الأكبر على حرية الإنسان.

ثم هناك الوطن الذي ضيَّعني صغيراً كبيراً.