لا إله إلا الله



 
في ظل مشاعر الحقد والغضب والذل والصراخ على الصمت المريب الذي تمارسه الشعوب والأنظمة العربية على حد سواء (حتى وإن كان هناك مظاهرات بالآلاف هنا وهناك إلا أنها لم ترتقي ببعدها السياسي والتاريخي إلى حد المصيبة التي تحدث في غزة)، نقف بعيون دامعة وصرخات عابرة وأيدي مكبّلة أمام الصور التي تبثها وكالات الإعلام لعلها تستطيع أن تنقل صورة ما يحدث في غزة وحشوِها عنوة في عقولنا الغائبة لتبث فينا ولو القليل من الحياء والخجل والغضب لما يحدث في غزة.
 
نحلّ ضيوفاً كغيرنا من شعوب العالم على قنوات التلفزيون التي تبث مشاهد القتل والتدمير وصرخات وبكاء الأطفال وعويل ولطم النساء لوجوههن الشريفة وجثث طاهرة ممزقة للشباب والرجال على وقع أصوات المكسرات أو الحلوى أو أصوات أجهزة التدفئة أو المكيفات أو شجار بين الأبناء أو صوت بكاء الأطفال في المنزل أو تأهب لتغيير القناة، لا تهم الأصوات كثيرا هنا إلا لمحاولة تقريب حقيقة مفادها أن الذين تشاهدونهم على شاشات التلفزيون ليسوا كادراً من فيلم أمريكي جديد أو جزءاً من فيلم وثائقي قديم، بل يحدث بينما أنتم تقرؤون هذه الكلمات.
 
لا تغيّروا القناة عندما تظهر هذه الصور بحجة أن بينكم أطفالاً لا تريدون لهم أن يكبروا على صور تقشعر لها الأبدان، أو لعدم قدرتكم على الإجابة عن أسئلة متوقعة سيوجهونها إليكم وأنتم تعلمون علم اليقين بأنكم لن تستطيعوا الإجابة عليها. لا تغيّروا القناة بناء على طلب واحد من أبنائكم ليشاهد أغنية حديثة على روتانا طرب أو ميلودي أو مسلسل تلفزيوني بدأ عرضه في الساعة المقررة له على إحدى قنوات الـ إم بي سي.
 
أقول لكم لا تغيّروا لأنه في اللحظة التي تقررون فيها تغير القناة، ستشعرون بقشعريرة بسيطة تسري في أجسادكم لأنكم في تلك اللحظة زرعتم بذرة كره أبنائكم لكم عندما يكبر هؤلاء الأبناء ويعلمون بأنكم اتخذتم قرارات أساءت لعقولهم وكرامتهم.
 
لا تغيّروا القناة، وإن أحرجكم أحد أبنائكم بسؤال، فلوذوا بالصمت أ و البكاء بصمت، لأنها اللغة العالمية الوحيدة التي يمكن أن يفهمها الصغار والكبار على حد سواء في مثل تلك اللحظات. دعوا أبناءكم يشعرون بما تشعرون به بداخلكم ولا تحرموهم من فرصة هذا الشعور الذي سيمدهم بالكرامة في المستقبل ولو كانت ساذجة لم يلوّثها بعد بالحقد والغضب.
 
هذا حديث إنساني وغير موجه لدين أو معتقد أو مذهب بالتحديد، ولكن يهدف إلى التعليق على صورة من هذه الصور التي مرّت مرور الكرام على الشعوب العربية والإسلامية كغيرها من الصور الأخرى التي تناقلتها صحف عربية.
 
أصيب فتى فلسطيني في واحدة من الغارات (صهيونية المنشأ، وأمريكية الدعم، وعربية الصمت) التي تستهدف الدم الفلسطيني وكأنه ماء متدفق من حنفية مياه، فلا أحد يبالي بمعرفة كيفية وصول هذه المياه إلى منازلنا وإلى أين هي ذاهبة. ولكن يجب عليكم أن تعلموا بأن دماءكم ليست أغلى من الدم الفلسطيني، فلدينا نفس العروق ونفس الصمامات ونفس الخلايا، ولكني أجزم بأننا جميعاً نستخدم هذه المياه لتطهير أجسادنا، مثل الدم الفلسطيني الذي يطهرنا كل يوم من الشعور بالذل والمهانة والاستسلام.
 
سأنادي الفتى بإسم محمد ليكون للقارئين أقرب واقعية مما يتصورون، ولأن العسكرة العالمية تستهدف هذا الاسم، فأطفال وشباب فلسطين الشهداء الحاملين لهذا الاسم بات الأكثرية.
 
وسأتخيل خروج محمد من منزله ليتسلم دعم مالي لربما تتلقاه أسرته من أفراد وأسر عربية مسيحية ومسلمة كريمة تجاهد بأموالها لنصرة الفلسطينيين. وسأتخيله ذاهباً لاستلام هدية من أحد أبناء أثرياء العرب الذي أراد بالتبرع بلعبة من ألعابه (تضامناً مع الفلسطينيين كما يفعل زملاءه في المدرسة ولا يدري لماذا ولمن وكيف تذهب هذه اللعبة). وسأتخيل اللعبة كرة قدم عليها شعار الفريق المفضل للثري الصغير.
 
سأتخيل بأن محمداً لم يكن يعلم بمخاطرة حياته من أجل جلب الدعم المالي شاءت الأقدار بخيالي أن يكون من نصيب عائلته، ولكني أعلم علم اليقين بأنه لم يكن خائفاً من القصف بسبب خروجه من منزله، لأنه لا يوجد فرق بين الخروج وعدمه، فالفلسطينيون عرضة للموت إن كانوا في المنزل أو خارجه.
 
الحقيقة التي وقعت بالفعل هي أن صاروخاً صهيونياً-أمريكياً-عربياً قد قصف المنطقة التي تواجد بها محمد، ولربما كان هذا الصاروخ هدية والد الثري الصغير بتعامله مع الصهاينة أو أتباعهم أو باستخفافه بما يحدث في غزة وفي أسوأ تقدير، لا يعرف فعلاً ما الذي يحدث في غزة فهو مشغول باستثماراته لضمان حياة يظن أنها "كريمة" لطفله.
 
جاء الإسعاف الفلسطيني مترجلاً أو متباطئاً حتى لا يحرق البنزين الذي بات سلعة رفاهية بالنسبة للفلسطينيين وليس أساسية كسائر شعوب العالم. وصلت سيارة الإسعاف وأخذوا محمد إلى المستشفى لعلاجه.
 
يبدو أن محمداً لم يفكر وقتئذ إلا بشيء واحد هو الاستغاثة، فالحروق التي أصابته مؤلمة جداً ولا يستطيع أي إنسان مهما بلغ من العمر والقوة أن يتحملها. ولكن إلى من يلجأ؟ للأنظمة العربية؟ بالطبع لا، فهو يعلم بأنهم لم ولن يحركوا ساكنا، مشخصاً عتبه على الشعب العربي الذي يختبيء وراء هذه الأنظمة لإسقاط مسؤوليته عما يحدث في غزة. هل يلجأ إلى الشعوب العربية المسلمة والمسيحية؟ لن يخففوا من آلامه المبرحة التي يشعر بها. بات شارد الذهن لا يستطيع الانتباه لما يحدث حوله، ولا يستطيع التذكر من أين جاء وإلى أين هو ذاهب، فرفع تلقائياً سبابته اليمنى.
 
التوحيد هو أصل جميع الديانات والرسالات وواحد من الأسباب الرئيسية لوجود الإنسان على الأرض. لا إله إلا الله، تجمل معاني التوحيد كلها للخالق الواحد ولا تختلف عليها الأديان والرسالات السماوية. وهي ليست حكراً على المسلمين أو المسيحيين، بل هي رسالة أبدية ما دام البشر موجودون على هذه الأرض. ولكن لمحمد معان أوضح للتوحيد منا جميعنا، فمن له غير الله عز وجل في تلك اللحظات وفي جميع لحظات حياته؟
 
جلس حبيبنا وصديقنا ومقلة عيننا محمد مضرجاً بدمائه وآلامه خائفاً على عائلته. ولو كان يعلم بأن الهدية "الخيالية" التي كان سيستلمها تتطلب استخدام قدميه، لما تردد في البقاء في أحضان والدته ليموت بين يديها!
 
القصة مستوحاة من الصورة المنقولة عن (أ ف ب) ولكن الفتى الفلسطيني حقيقي والدماء حقيقية
 
 
لا تبخلوا على محمد بدمعة صادقة وبساعة واحدة فقط مع أبنائكم ليشاهدوا ما الذي يحدث في فلسطين، ولا تخافوا عليهم من عقد نفسية أو نوبات صرع أو أحلام مزعجة لأنها لن تصيبهم من جراء المشاهدة بل الأرجح أن يصابوا بها جراء الاصطدام فيما بعد بواقع لم يعرفوه خلال نشأتهم.
 
يجب أن يشاهدوا ما الذي يحدث في غزة ولا ترتكبوا نفس الأخطاء التي ارتكبها الكثير من الأباء والأمهات بتغييب هذا الواقع عن أطفالهم وأبنائهم وبناتهم وتغييب محمد آخر وفلسطيني آخر قضوا نحبهم بسبب خوف الأهالي. كونوا صادقين مع محمد، والأهم كونوا صادقين مع أنفسكم.