البلقان... كرة الثلج .


كثيرون تابعوا مسألة إعلان استقلال كوسوفو الأحادي الجانب بنوع من اللامبالاة باعتباره أمراً لا يخصنا كثيراً حيث يقع في القارة الأوروبية, بينما أبدى البعض الآخر فرحتهم بما أسموه استقلال أول دولة اسلامية في أوروبا, الأمر الذي لابد وأن (يعزز مكانة العالم الإسلامي).

هناك آخرون يرون أنه ليس بهذه البساطة والسطحية بل هو أكبر وأخطر بكثير من ذلك, بل إنها قد تفتح باب جهنم وقد تخرج من هذا الباب شرور تملأ العالم.‏

وهنا يرى البعض أنها ستكون سابقة خطيرة بصورة لم يسبق لها مثيل لدرجة أن ذلك سيكون مدخلاً محتملاً لحدوث تفتيت لكيان الدولة لكل من عشرات الدول الأخرى, وبالذات الدول الإسلامية منها, الأمر الذي يهدد الأمن والاستقرار في العالم بأسره, وفي استطلاع للرأي أجراه موقع (الدويتشه فيله) على سؤال يقول: (هل تعتقد أن انفصال كوسوفو عن صربيا سوف يشجع بعض الأقليات ولاسيما في العالم العربي على الانفصال عن البلد الأم)?‏

أجاب: 60% بالتأكيد.‏

ولمعرفة مدى أهمية اقليم كوسوفو في البلقان والذي يشكل الألبان فيه نسبة 90% نذكر بأن مظاهرات الطلاب عام 1981 في عاصمة الاقليم برشتينيا بعد وفاة الزعيم اليوغوسلافي (تيتو) كانت أول معول يؤسس لهدم الدولة بعد ايقاظه المشاعر القومية التي تطورت حتى أتت أكلها مع إعلان سلوفينيا استقلالها عام 1991 لتندلع الحرب ثم تتلوها كرواتيا والبوسنة التي وصلت فيها الحرب إلى أسوأ مراحلها دموية ووحشية ضد المسلمين بسبب عدم وجود حام لهم في أوروبا كما حدث ذلك مع الكروات والسلوفاكيين والسلوفينيين.‏

ثم تلتهم في النهاية مقدونيا والجبل الأسود بلا حرب لتتقلص الدولة إلى أدنى مستوى لها في صربيا فقط.‏

يرى معظم المراقبين أنه لن تكون هناك أي فرصة لكوسوفو للنجاح كدولة مستقلة دون قبول صربيا لأسباب اقتصادية تماماً لأن الاقليم من أكثر المناطق الأوروبية فقراً وسكانه يعيشون في حالة مزرية حيث يصل معدل دخل الفرد إلى حوالى 1250 يورو في العام.‏

مع اقتراب نسبة الفقراء فيه إلى ما يقرب من 40%, من خلال ذلك يمكن القول إن الأوضاع في كوسوفو لن تكون قادرة على الحياة ولعقود, إلا إذا عاشت على المساعدات الخارجية.‏

وبنظرة سريعة إلى المواقف الدولية المختلفة من استقلال كوسوفو نجد أنها انقسمت إلى ثلاثة معسكرات مختلفة:‏

الأول معسكر المؤيدين والمحرضين على الاستقلال وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية والتي اعترفت فوراً بالاستقلال وأهمها المانيا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا, بالطبع جاءت وراءهم عشرات الدول المؤيدة للموقف الأميركي.‏

المعسكر الثاني هو المتحفظ على هذه الخطوة وعلى رأسه بعض الدول الأوروبية مثل التشيك وهولندا والبرتغال وعشرات من الدول الأخرى التي لم تعلن موقفها بوضوح.‏

وهو ما أوجزه الرئىس التشيكي فا كلاف هافل بتحذيره من أن هذه الخطوة ستكون مثل كرة الثلج التي تزداد خطورة تبعاتها على أمن واستقرار ومستقبل البلقان يوماً بعد يوم.‏

أما المعسكر الثالث فهو يضم ليس فقط صربيا وروسيا أو حتى الصين بل أيضاً يضم ست دول أوروبية على الأقل هي اسبانيا وبلغاريا واليونان ورومانيا وسلوفاكيا وقبرص, وهذه الدول ترفض استقلال الاقليم لأسباب عديدة منها:‏

1- سيكون سابقة خطيرة لدول أخرى كثيرة فيها عدد من الأقليات داخل الدولة وهو ما ينطبق على دول كثيرة منها اقليم الباسك في اسبانيا.‏

من ناحية أخرى احتفظت صربيا بالهدوء حيث اعلنت أنها لا تستخدم القوة للوقوف ضد هذه الخطوة, لكنها أعلنت أنها لن تقبل أبداً ما اسمته ب: (الدولة الوهمية) بل إن الرئىس الصربي الجديد والمعروف بموالاته للغرب والمصر على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أكد في كلمته بعد حلف اليمين قائلاً: (لن أتخلى أبداً عن القتال من أجل اقليمنا كوسوفو ولا القتال من أجل انضمام صربيا للاتحاد الأوروبي, من خلال ما تقدم نرى أن حقيقة الأزمة أكبر بكثير من كونها صراعاً بين أغلبية ألبانية في اقليم كوسوفو وأقلية صربية فيه أو هيمنة صربية على شعب يطالب بحق تقرير المصير في يوغوسلافيا, فهي من ناحية استكمال لحلقة احتكام القبضة الممسكة لحلف (الناتو) أو بالأحرى الولايات المتحدة, على القارة الأوروبية لابتلاعها بصورة كاملة, ومن ناحية ثانية حلقة جديدة وذات تداعيات خطيرة بين الولايات المتحدة وحلف الناتو التابع لها, وبين روسيا ومن ورائها الصين وإيران والهند والعديد من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً, كما يمهد وبصورة قاطعة لإخراج أمر معالجة الأزمات الدولية من يد الأمم المتحدة.‏

وهو مالا يعد إلا خطوة إضافية لما كانت الولايات المتحدة قد بدأته في حروبها غير الشرعية على يوغوسلافيا بسبب كوسوفو, والتي كانت تهدف منها منذ اللحظة الأولى إلى القضاء على نموذج الدولة القومية الصربية في أوروبا وكسر التحالف السلافي الروسي مع الصرب وروسيا البيضاء.‏

وهو ما توج بمشروع مظلة الصواريخ الدفاعية على الحدود الروسية إلى جانب إقامة قواعد للناتو في كوسوفو قريباً.‏

لذلك فقد اتخذ الرئىس الروسي (بوتين) موقفاً صارماً مؤكداً أن أي دعم لاستقلال احادي الجانب لاقليم كوسوفو يعد (غير اخلاقي وغير شرعي) ويمثل انتهاكاً صارخاً لقرار مجلس الأمن (1244) والذي صدر عام 1999 عقب انتهاء الحرب على يوغوسلافيا.‏

بالمقابل فقد اتسم الموقف الأميركي والأوروبي بالتناقض مع إعلان رايس أن مستقبل صربيا في الاتحاد الأوروبي وإعلان الاتحاد الأوروبي أن مستقبل كوسوفو وصربيا مع أوروبا, هذا بينما بدا التناقض واضحاً في موقف وزير خارجية المانيا الذي سبق أن أكد أثناء مؤتمر وزراء خارجية الدول الثماني في حزيران من العام الماضي أنه بدون الاتفاق على قرار من مجلس الأمن.. لن نستطيع أن نسير قدماً فيما يتعلق بالبلقان وكوسوفو.‏

لكن رد الفعل الروسي بتوجيه تهديدات صريحة وجدية من أنها بهذه الخطوة ستجد نفسها مضطرة لقبول استقلال الجزء التركي من قبرص والذي لايحظى حتى الآن باعتراف تركيا.‏

وهو أيضاً ما ذهبت إليه الصين التي تخشى من محاولات تعميم التجربة على تايوان, حيث عبّر وزير خارجيتها برسالة واضحة قائلاً:‏

(نحن نعارض بشدة أي شخص أو أي منظمة تسعى لفصل تايوان وهو ما سيكون مآله الفشل حتماً).‏

لكن هل سيكون استقلال كوسوفو هنا هذه المرة بداية لفوضى أميركية خلاقة تشمل العالم بأسره..?‏